الشورى والاجماع والعرف والرأي العام
شار معناها عرض، الشارة والشورة المظهر والصورة، والاشارة الايماء الى الآخرين، والمشاورة والمشورة التناصح، والاستشارة (طلب الرأي) والشورة الشركة بالآراء. و(الشورى) في القرآن هي النهج اللازم لأمر المؤمنين العام: {والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم} [31][31] وأوصى الرسول (ص) حتى في التدابير العسكرية ان يدير الشورى لجمع الرأي {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين} [32][32] وبحرف الترتيب (الفاء) اصبح العزم والقرار نتيجة (الشورى) وليس عزماً مستقلاً مستبداً يرد مضافاً (بالواو).
وقد تعطلت (الشورة) وظاهرة (اهل الشورى) التي كانت في قيادة سلطان المسلمين الرشيد، ولذلك اصبحت كلمة الشورى كأنها ندب اخلاقي في قرارات السلطان او في علاقات المجتمع. ولكن هي بالحق: منهج ينتهي بعد تداول الرأي الى القرار (بالإجماع)، وهو مصدر وأصل لتكاليف الاحكام في الدين بعد الكتاب والسنة، من حيث تستوحي (الشورى) استنباط الآراء. و(الاجماع) ليس هو قرار الجميع ايجاباً على رأي واحد، ولكن هو في العربية ذلك الوفاق الشامل عدا لكل المتشاورين، او قرار السواد الأعظم. وروح الدين لا تناسبها كلمة الغلب والصراع (الاغلبية والاقلية) لان المؤمنين متى احسوا ظهور رأي (سوادهم الأعظم) ـ بعد تقليب الحيثيات المتداولة المتفرقة ـ تنشرح صدورهم ويقومون جميعاً على ذلك الرأي. (فالاجماع) هو احكام النية والعزيمة عندئذ، والمؤمنون اذا اجتمعوا للشورى يجتهدون ان ينتهوا الى وفاق لا يشذ عنه أحد. ولكن عجلة الامور العامة احياناً قد لا تيسر تأخير القرار ومطل المداولة، بل تراعي التحفظات البادية، ويبرز ما يقرب من جماع للأصوات، لا يغلب بنصفها زائدا قليلاً، بل يرجح لوفاق السواد الأعظم، مما يدعو للخروج من (الشورى) بروح العزيمة المتحدة دون شذوذ واسع، يثاقل بطائفة مقدرة في ساعة جمع الطاقات للتنفيذ.
و(الاجتماع) قد يصدر قراراً بينا عن (الشورى) في جلسة او دائرة تدبر لتبادل الرأي والمناظرة الصريحة، ولكن قد يصدر ـ ايضاً ـ من سنة يتوافق عليها المجتمع. في عهد من اتساق السلوك والتصرف العام، يتجلى عنه ما هو (المعروف) يرضاه سواد الناس يعرفونه حقاً من نص القرآن والسنة ومن الأمر المستنبط منهما المعهود بينهم، ويمضي سنة وتكليفاً تحرسه جزاءات تقع من المجتمع، او ما هو (المنكر) يأبونه لانه مما تنكره وتنهى عنه الشرائع وفقههم لها ويحيطونه بعقوبات تمضي على من يأتيه. وذلك هو (العرف) وهو (اجماع سكوتي سلوكي بخيار عامة الجمهور)، ويحمل تبعات التكليف حمدا على المرضى واذى على المكروه، ولكنه حكم ينسخه نص التشريع الصريح او تقادم العهد وتبدل مذاهب السلوك العام.
واذا عمرت بين الناس وسائل الاتصال وتكثفت العلاقات حضراً وإعلاما، فقد يظهر من (استقراء الرأي العام) بالملاحظة او بالسؤال والجواب المعدود رأي لغالب الجمهور لم يتمثل في قرار لأولي امر السلطان، او مسلك لهم وزنه المقدر لكنه لم يترسخ عرفاً لازماً. والآراء والعادات العامة ـ مهما كانت ـ اخف وقعاً من قرارات (الشورى) في مجالس ودوائر ذات حجة لازمة في النظام المعهود المرسوم، ومن انعقادات (العرف) في بيئة معينة.
واذا كانت النظم القانونية السياسية الوضعية لا تعرف في بينها الثابت وقطعيها المعلوم وظاهرها المرسوم، الا تكاليف محدودة ليس فيها الا المحظور الباطل المعاقب عليه والواجب الحق والمباح الحر المأذون المعصوم ـ اذا كان ذلك كذلك ـ فان نظام الإسلام (متكامل) يعرف حدود (الحرمات) و(الفروض) و(المباحات)، ولكنه يبسط التكاليف الى كل درجات الوقع (بالمكروه) دون الحرام والكبيرة، و(المندوب) دون الواجب والفرض، وتمتد درجات نسبية لكل المدى. ومنها تكاليف دينية يرعاها المؤمن من تلقاء ضميره لان الله يراقبه فيما يخفي ويعلم بنياته مهما استتر الامر عن الناس، واخرى تقع من تلقاء المجتمع اخلاقاً وآداباً مدفوعة بحملات الترغيب والترهيب معروفاً ومنكراً، واخرى محروسة من تلقاء السلطان والقضاء. فالنظام السلطاني السياسي في جملته حياة مركبة من هيئات وقوى وعلاقات متكاملة بتلك النسب من وجوه النهي والأمر والجواز والباطن والظاهر، واثره لذلك اصدق وافعل من أي نظام آخر يشيع فيه النفاق والمراءاة والحيل القانونية وتتعطل هياكل الحدود لأن هوامشها واعصابها الخلقية تموت فتنهي مغازيها وتصير صوراً بغير معان.
و(الشورى) منهج حياة في أيما علاقة اجتماعية او سياسية يصلها وضع وشأن مشترك: اسرة كانت او شركة مال او ناد لهم واحد او رابطة توال على هم واحد، او قطر جوار او رعية راع او وطن سلطان واحد. و(الشورى) بين بني الإنسان الأحرار فطرة وشرعة وخلق طيب، لكن حيثما كانت الرابطة طوعاً غير مفروضة والشأن عفواً غير واجب (فالشورى) تعاون لا يثمر تكليفاً لازماً، لكن الأمر المشترك قد يجعل طلبها خيراً، فهي (استشارة) من شاء سمع ومن شاء تجاوز، وقد يكون امراً عاماً و(الاستشارة) والسمع لهديها أولى. وقد يكون الأمر مما يترتب عنه منع او تكليف بقوة السلطان، و(الشورى) عندئذ (بالشريعة) اجراء واجب، واتباع ما تجمع عليه الآراء طاعة واجبة والكلمة المقابلة بالانجليزية (Consultaoion) فيغلب استعمالها في وقع طلب الرأي العفو.
و(الاجماع) كانت كلمة ولم تكن مصطلحاً على ما تنتهي اليه شورى المسلمين في الأمور العامة التي تنتهي بالتكليف السلطاني. ولكن الكلمة عهدها ائمة الفقه (إجماعاً) لفقهاء البيئة العلمية حولهم (الإمام مالك مثلاً)، او لكل المجتهدين في امة الاسلام، (الامام الشافعي مثلاً) وحسبه بعضهم اتفاقاً لا يشذ عنه احد (المتأخرون). ولما تعسرت (الشورى) و(الاجماع) بين الفقهاء بهذه الصورة اصبحت كلمة (الاجماع)، حجة فقط على من يخرج برأيه عن المعهود المشهود من الفتوى. فالفقهاء عدوا أنفسهم ممثلي جمهور المسلمين في الرأي والشورى وكانوا يأخذون اجتهادهم مما عليه المؤمنون وعملهم في الواقع.
وما كان الاجراء الشورى في الشأن السلطاني في حياة المسلمين العامة الاولى الراشدة نظام، ينظم شورى المسلمين جميعاً او ممثليهم من ذوي الفقه كانوا او من ذوي القيادة، وكانت عبارة (أهل الشورى) تبدو صفة عامة لا تضبط أعيان الموصوفين بأسمائهم وعددهم وهيئاتهم. وكذلك ظهرت من بعد عهد السنة والصحابة عبارة (أهل الحل والعقد) وهي الفئة القيادية التي تحل المشكلات وتعقد الرأي حول الشؤون العامة وتجتهد وتستنبط الالتزامات العامة الواجبة الوفاء، وما كانوا معدودين أعياناً. واذ لم تمتد روح (الشورى) في السلطان بين خلف المسلمين بعد الخلافة الراشدة، ما كانت لتتطور اوضاع ونظم مرتبة.
والنظم التي لا تعرف (الحرية) و(الشورى) لو تسمت (خلافة) على غير الرشد الأول، فهي اما حكم فرد جبار (Autocracy, Moncracy) او طاغوت فرداً فردا او عصبة غالبة مطلقا (Tyranny) او حكم يحتكره رجال الدين (Theocracy) او الإقطاعيون والمترفون (Aristocracy, Plutocracy) او الديوانيون (Bureaucracy).
و(الشورى) بالطبع لا تجعل للسلطان ذراعاً تمتد للأمر في كل شؤون الحياة لانها تقوم على الحرية، التي تخص الناس ببعض شؤونهم وتحصر الشؤون والوظائف العامة مواطن (الشورى) والأمر اللازم) لمن يلي ذلك، والا فالنظام سلطان (شمولي) (Totalitarian) او (مطلق) (Absolute).
العهد والعقد السياسي
(العهد) في الحياة العامة هو التكليف الذي اوصت به امانة رباط ووكده التزام علاقة عبر الزمان بين العاهد والمتعهد. عهداَ من الله او من بعض الناس على بعض، واجب الحفظ والرعاية والوفاء لا يجوز نقضه او نبذه. و(العقد) نقيض الحل (وصل الطرفين كعقد البناء) وهو (العهد المغلظ المبرم المحكم) بين أطرافه من بني الانسان، في ايجاب او عرض، ثم قبول في عقد نكاح او بيع او معاملة او عقد علاقة سياسية، وحقه ان يوفي لا ينقض. و(الميثاق) كذلك عهد شد ووثق واحكم بالكتاب والشهادة او نحو ذلك من العهود، وحقه ان يوفي ولا ينكث والكلمة المقابلة بالانجليزية في السياسات (Convention) او في الماليات (Bond) او عموما (Contract).
و(العهد العام) المتواصي به في الحياة السياسية، المبرم (عقداً) بين السواد الأعظم للجمهور، المشدود (ميثاقاً) قد يكتب فيصبح بمصطلح العربية (كتاباً) او الفارسية الشائعة عربياً (دستوراً) وهي الكلمة المقابلة للغربية (Constitution) وهو البناء الأساسي للدولة.
ومن كلمة (العهد) العربية انشئت عبارة تقليدية غير مشروعة المعنى وغير معهودة في أصول سنة الإسلام النبوية الاولى ولا عند خلفها الراشد: (ولي العهد) وهو الذي تتولى الرعية الالتزام نحوه عبر الزمان ان يخلف سلفه يتولى السلطان. وقد اخذ اهل الغرب مصطلح العقد من فقه سلطان المسلمين ومفهوم (البيعة) وأسموه (العقد الجماعي)، وأسسوا عليه مفهومات الديمقراطية من تعاقد المجتمع مع سلطنة ولاية الأمر العام.
وقد سمي هذا العقد مع ولي الأمر عيناً (البيعة) في مصطلح الاسلام، و(البيعة) واحدة البيع، عقد معاوضة كالتجارة في معاملة عطاء بعطاء، وهي في الحياة الدينية عقد مع الله: عقيدة ان تسلم كل الحياة لله طاعة وعبادة بالنوايا والاقوال والافعال وعطاء بالماء والروح مقابل الجنة والرضوان في الآخرة {ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [33][33] وذلك بمصطلح القرآن المتواتر شراء واشتراء وبيع وتجارة لا تبور، وهي (بيعة) عقد مطلق لكل الحياة. اما مع النبي (ص) الذي يصله بالله الوحي يفوض اليه الشهادة عند الله مهدياً مقوماً، (فإن البيعة له مطلقة تشمل كل الحياة لأداء كل تكاليف الدين)، ولكن لا تقتصر معاوضة (البيعة) على النبي (ص) فهو لا يملك ما يقابل عطاء الدنيا عطاء الآخرة فان البيعة له شكلاً وظاهراً ليست الا بيعة لشهادته الله، ولو كانت صفقة تؤكدها صفقة الأيدي فهي رمز كأن العقد يصل يد المبايع بيد الله {ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجراً عظيما}. [34][34]
اما مع البشر فقد تكون (البيعة) عقد تجارة ومعاوضة او مقايضة سواء، سلعة او مقابل مال او سلعة. اما اذا كان الامر (عقد حكم) بين رعية وولي سلطان فالمقابلة فيه: التزام طاعة من المولى لأمر السلطان بالتزام طاعة للعهد الواقع على (ولي الأمر)، و(العقد) بينهما قد يكون لأجل مسمى وشروطه تكون بينة، ما يملك الولي من السلطان بأجله بحدوده موضوعاً وشكلاً، اذ ليس له كالله العلي سلطان مطلق. والأفضل ديناً مثل عقد الدين ان يكون التعاهد مسجلاً كتابة ومشهودا والأجل مسمى والبيان غير مبهم لصغائر الاحكام وكبارها، وذلك كما جاء في آية الدين من البقرة، والمعهود اليوم ان يحرر ذلك العقد بأجله وشروطه في (عهد) (الدستور) ثم يقع عيناً على من ينتخب بالشورى حسب اجراءات (الدستور).
وقد كانت (البيعة) في الخلافة الراشدة على شرط التزام الشريعة والسنة صدقاً، ثم تدهورت وأصبحت ادعاء، ثم تدهورت (البيعة) لتعني الطاعة المطلقة لشيخ صوفي، او (البيعة) في الولاء لأمير جبار بغير شرط او التزام مقابل. لكن حركات الإسلام المتجدد جددت (البيعة) لا لأحد بل توالياً بين الجميع على المنهج الديني، بأمر التنظيم المؤسس الذي يحزبهم، ومن ثم هي (عقد ولاء وطاعة) للجماعة في سبيل (بيعة) لله عبادة وجهاداً مقابل وعد الجنة والرضوان. وقد يقوم بدفع حركة الاسلام سلطان راشد للمسلمين وتكون (البيعة) ليست صفقات بالأيدي بل اقتراع نتيجته لمرشح للولاية المعينة، ومن وقع (العهد) الدستوري له بالانتخاب (الشوري) الغالب، فعلى الرعية كافة له الطاعة، ولكل العاملين تحت سلطانه حسب وظائفهم ومراتبهم تجب الطاعة بشروطها وآجالها المكتوبة وتكون للمؤمنين فرعاً عن (البيعة) لله طاعة لشرعه وحكمة بواجب الوفاء بالعقود والمواثيق ورجاء لجزائه. ومن وراء ذلك تقع بحكم (عهد) الدستور والقانون تكاليف ازاء القضاء او الاجهزة التشريعية او المؤسسات.
وقد يكون في السياسة التزام بوعد وهو تبشير بفعل وتدبير مستقبل من الوعد بغير مقابل مرجو لميعاده، وانجازه والوفاء به لا خلفه واجب صدقاً في أخلاق الدين حتى يستقيم في علاقات الناس الأمان. و(العهود والوعود) هي شروط التمثيل النيابي الصادق في بناء المجالس الشوروية، التي تجمع وكلاء معدودين عن اصلاء الارادة الشعبية من الجماهير ذات الأهلية للرأي، الذي يتشكل منه (الاجماع).
نظم الدولة ومداها
(أولو الأمر) في القرآن هم كل ولاة السلطان والشأن والسلطة العامة (Authority). وأعلاهم اجهزة جماعية نيابية تعمل (بالشورى) الملزمة وفق ما يعلو عليها من شورى واجماع مباشر صدر عن الأمة كافة استفتاء حرا تفصيلاً وتنزيلاً لفهمها لهدى (الشريعة): {فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول} [35][35]. والاجهزة او الافراد الذين يولون الامر انتخاباً او تعييناً وفق حكم النظام الاجماعي والتفويض المشروع: كل اولئك هرم تحت (الشريعة) و(الاجماع) من له أمر يليه يراعي علاقات سائر البنية السلطانية المرتبة افقياً، لكل اختصاص ووظيفة او رأسياً، لكل صعيد من حجية الأمر السلطاني ووقعه.
(وأهل العقد والحل) هم الجماعة المنتخبة التي تتصدر الشورى في الشأن المركزي للأمة، او في شأن اقليم او وظيفة دنيا او خاصة من شعاب الحياة العامة، وقرارهم يحل المتعقد من مشكلات الأمور وينهي ويعقد سائب الأمور ويحسم خلافيها.
(وولاة الأمر) منتخبون بالشورى كذلك، يترتبون من المولى الأعم والأعظم في الدولة الى الولاة دونه، انتخاباً او تعيينا ـ حسب قرار الاجماع ـ على كل اقليم او شعبة من وزارة او امارة. مفوضة او مأمورة للتنفيذ ومنهم العمال المتولون للإدارة اللامركزية او الفرعية و(الدواوين) التي تجمع العاملين.
وجملة العاملين ذوي الوظائف اصبحت تسمى (الخدمة العامة) (Public Service) منها الجنود وإمارة الجهاد ومنها المدنيون (Civil Service) الذين يتولون الخدمة المدنية غير المسلحة والذين يعملون بسلطة القرار الإداري والمال العام والخدمات العامة، لرعاية المعاش او العلم او الصحة بين الناس او نحو ذلك. والمدني نسبة الى المقام الذي يمدن فيه الناس مدنا اقامة، والى المدنية فهو منسوب للحضر لا للجندية والحركة والسفر.
ومهما سويت المسائل العامة بحكومة العاملين او ذوي الامر العام جماعات وأفراداً، فان الخصومات الخاصة يليها (القضاء) الذي يحتم ويحكم ويفصل في كل خصومة ويتم تسويتها في سبيل العدل. و(القضاء) في النظام الأسلامي كان موحداً مع الإمارة السياسية العامة، ولكنه تمايز الى القضاة، فهم يحكمون بمقتضى (الشرع) و(الإجماع) او يجتهدون رأيهم التي هي أعدل بين المتقاضين. ويوازي عام القضاة في نظام الإسلام قضاة (ديوان المظالم)، وهم اقرب الى قضاء الخصومات في أوامر الإدارة التقديرية وأفعل اجراءات في نفاذ حكهم ولو في شكوى اعم وخصومة اشمل من قضية معينة.
واذا كان لوظيفة (الجهاد) إمارتها وجنودها لحماية البيضة وتحصين الثغور، (فللشرطة) كذلك تقليد قديم لإقامة الحدود واتقاء الظلم والعدوان، (وللعيون والبريد) وظيفة لجمع أخبار الحياة العامة ونشر اعلامها وتأمين نظامها (قوى الأمن والضبط والاعلام والدعاية). ومهما كان فان وظائف الحياة العامة وادارتها تتطور حسب كثافة الابتلاءات وفنون الوسائل وتتخذ من العربية الاصيلة مصطلحا لا من الترجمة الساذجة او التعريب للفظ المباشر.
اما الذي بين الدولة والمجتمع فإن الدولة الحديثة تضخمت وظائفها واتسع وقع سلطانها وتكثفت الوسائل لأمرها، ومن ثم تعاظم حجم (الدواوين والعاملين) في شؤون الجهاد والامن والعلم والصحة والمعاش، وسائر البنى الاساسية لعلاقات الناس. وهؤلاء يؤدون وظائفهم على نهد وسنة واحدة راتبة لا يختلف عليها الناس كثيراً، ولذلك هم ثابتون يبقون قوة الدولة مهما تعاقبت وتبدلت القيادات السياسية التي تتولى الأمور الخلافية والعامة، سواء تداولت السلطان باستلابات ثورات وانقلابات او انتخابات يتغير فيها خيار الناس. ولئن سمين هذه الشريحة التي يختلف عليها وتتعاقب (الحكومة) (Government)، وهي التي تتولى القوة السياسية وتتداولها، فان بقية الدولة بل البنية السلطانية الثابتة أخذت تأكل (الحكومة) وتلونها، وأخذت تزحف بنباتها على الحرية والعدالة في الخيار، واتجه الميزان الى رجوع النظم الراتبة السادة التي تحتكر العلم والقوة، وتؤثر الفعل العملي المتيسر المترتب على الفكر الحر الاصيل الذي ينطلق حراً في اجتهاد مختلف. فالمجتمع اخذت تطغى عليه القيادات والدولة ومحرماً من الفكرة والدفعة، الا اذا تراكم عليه ما يراه بائداً او ظالماً فيثور ويقلب النظم.
و(الملأ) في كل النظم راشدة او فرعونية فرد كانت، او سلطوية لطبقة اشتراكية، او رأسمالية او لبرالية، هي في لغة القرآن (البطانة) او القوة المتنفذة حول مركز متوحد، وهم في سلطان اليوم من يسود من أهل دواوين الدولة ويحتكرون العلم والمعلومات والمال والتصرفات والقوى النفوذيات. اما في التجربة الاسلامية فيمكن ايضاً ان يغشى الحياة العامة حول السلطان (ملأ) من رجال الدين شيوخاً وعلماء يحتكرون العلم والامام، وسادة وكبراء يدعون القيادة بأوضاعهم، وساسة عاملون باسم الشعار ودوافع الهوى نحو الراتب والواقع المنتشر، الا اذا بقي المجتمع المسلم قوة توازن قوى القيادة والدولة، يعبر عن حركته (بالإجماع) رأيا و(عرفاً) عن حرية اجتهاد، و(بالمجاهدة) كسب مال وعافية ودفاع.
والمثال الإسلامي حينما يبلغ (المؤمنون) مستوى علياً ان يقوموا مباشرة بغالب وظائف الحياة الجماعية طوعاً مستغنين عن أداة السيطرة والسلطان، يأتمرون بالمعروف مسالك عمل صالح، ويتناهون عن المنكر ضوابط تقوى، ويتصالحون في كل ابتلاء نزاع دون اوامر قوة وأكراه او موانع توحد وعقوبة وحسم قضاء يرد الظلم بالحق نافذاً. لكن المثال لن يبلغ الكمال فلا غناء عن بعض قادة موكلين بعقود التوالي المذهبي والمصلحي والحزبي للتعبير عن المسلمين، ولا غناء عن هيئات نيابية ينتخبونها لتمثل اجماعهم او نظم قضاء ووظائف عليا ترعى شأنهم، او عن ولاة يختارون طوعاً يقدم امرهم وأمر العاملين تحتهم حكماً وسلطاناً. ولكن مهما تكثفت اتصالات الحياة وحاجاتها العامة وتضخمت ادوات الحكم ووظائفهم، فالمسعى ألا يتفاقم ويتضخم عجز قاعدة المجتمع المسلم وتعويله تمثيلاً على القادة وسلطاناً على الدولة، اليها توكل غالب التكاليف وتسند الأداة والسلطة اللازمة، بل ينبغي ان يحيا الإيمان وينهض ليتولى المؤمنون مجتمعاً ورعية غالب الأمور مباشرة كما يخاطبهم بها القرآن متواتراً ولا يقوم بذوي الأمر السلطاني منهم الاّ القليل فالأقل. ولزيادة دوافع الإيمان طوعاً وضوابطه، وادوات البر والتقوى والتعاون عفواً ومواعين الوعي والعلم والتذكر حراً، وقوام الحياة العامة وصلاحها بأكثف المباشرة وبأدنى كره او سيطرة او جبر او سلطان.
الإصلاح للأمر العام
(الصلاح): ضد الفساد، والإصلاح تقويم الفساد وتغيير المفسدة بما هو مصلحة وتبديل وخسر ذات البين في علاقات المجتمع بما هو وفاق، وهو تبديل ما تغيرت حوله ظروف البلاد فأحالته قصوراً وظلماً وفساداً.
و(إصلاح) المرء نفسه توبة الى الخير بعد سوء، و(الصلاح) كسب عمل الصالحات كما يوصي بذلك القرآن كثيراً ـ تصديقاً وكسباً للفلاح واتقاء للخسران. و(اصلاح) المجتمع الأوبة به عامة للحق بعد نهج الباطل، وللعدل والخير والنظام بعد الظلم والفساد، في سبيل حسن العواقب {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه انيب}. [36][36]
و(الاصلاح)، كلمة تستعمل الآن في العربية مقابلة للاتينية الأصل (Reform) التي تعني ظاهر الحياة او تبديله، وفي المناهج السياسية (الإصلاحية) تعني الى جانب ذلك اتخاذ التدرج في سلام وسيلة لذلك الغرض.
لكن (الاصلاح) في لغة القرآن أجمع لابتغاء كل الصلاح أصولاً وظواهر بكل الوسائل المشروعة دعوة رفيقة صبورة متدرجة او جهاداً حمياً مسارعاً نحو المقاصد الخيرة.
و(الاصلاح للأمر العام) هو محاولة تغيير سياسي حركة نحو المثل العامة اذا غفل او قصر عنها المجتمع بواقعه، او اذا جمد على موافق الحق ومظاهره القديمة رغم ابتلاءات وظروف طرأت فرقت ذات بين المجتمع والمثل، مما يستدعي مذاهب وصوراً جديدة لتصلح وتستقيم مع الحق ابداً.
و(الحركة الاصلاحية) للمجتمع هي حركة (احياء) بعد (موات) في لغة القرآن. وتبدو في النفوس (يقظة) او صحوة ايمانية ( Revival, Rebirth)، لا تقتصر على حال النفوس الخاصة كما هو شأن العقائد الدينية التي انتهى اليها الغرب، بل هي تتصدق بحركة نشاط الاجتهاد) الفكري وتجديد الرؤى الفقهية للدين بعد الخمود والتقليد، وذلك (الاحياء) (Renaissance) هو بدوافع الايمان المذكر (بعث) للطاقة والنهضة المادية في الحياة، لا تجمد او تعقم او تموت بل تتحرك وتنمو وتنتج جديداً.
واذا تيسرت لحركة (الاصلاح) السياسي الحرية وانفتحت السبل مهاداً لاندفاع (المشيئة)، يخطر وينشأ ثم يثمر التجديد عند بعض نفوس المجتمع عواطفاً وافكاراً واعمالاً، ثم ينتشر التجديد: بالدعوة والبلاغ والجدال والقدوة ويتخذ لذلك طريق السلام لأنه أحسن العلاقات بالإنسان وأيسرها وأسرعها للانتشار وأبلغها لضمان الصدق والفعالية: والغاية عندئذ تتقارب (تقدماً) (Progress) نحو المثل المنشودة ولو في وجه من يجادل داعياً (للمحافظة) على التقاليد: (Traditionalist Conservative).
لكن القديم قد يتصلب في وجه الاصلاح والتجديد فكراً وعرفاً تقليديا ويتخذ مذهبا (رجعياً) (Reactionary)، من شدة حب الرجوع الى التراث ذاته في كل شيء.
الا ان العود الى الاصول الاولى للاسلام يدفع لتجاوز بعض التقاليد الراكمة عقائد وأعرافاً اصبحت منسوبة الى الحق من طول العهد الراتب، لكنها تحجب اصول الحق وتثقل كل حركة تستوحي منها حوافز التجديد والتعبير الصادق عنها في حادثات الظروف.
(فالأصولية) هي اندفاعة تقدمية تقاوم (التقليدية) التي تدعي النسبة للتراث خلال كسب قديم للسلف، تحجرت وقست بها نفوس الخلف. لكن تلك (الأصولية) هي غير ما عهدته النصرانية في أميركا، ومدت منه الكلمة بالقياس الخاطئ والنفوذ الدعائي نحو ظواهر الجديد في حاضر الاسلام.
وقد يكون الاعتصام بالقديم اصراراً على اعراف ومنافع معهودة اسرت العصبيات والشهوات أهلها، وصاروا يشفقون من الخطر على موازنهم ومكاسبهم لمتاع الدنيا اذا دخل الاصلاح الجديد.هكذا قامت في وجه دعوة الانبياء الصالحين دعايات الحذرين من قادم الحق والعدل {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا او ان نفعل في أموالنا من نشاء انك لأنت الحليم الرشيد} [37][37] {وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال متوفوها انا وجدنا آباءنا على امة وإنا على آثارهم مقتدون}. [38][38]
وفي وجه (الاصلاح) اذا أدرك اهل القديم ومن يواليهم في الأرض ان الجديد خطر ممتد لا تجدي ضده المناظرة والمجادلة قد يلجأون الى رفع القوة والسلاح لاسيما اذا كان ذلك (الاصلاح) يتهدد المعهود لذوي القوة والسلطان في المجتمع القديم من منافع وقدرة على البطش والجبروت والظلم، كقصة فرعون وآله وجنده مع موسى عليه السلام وقومه.
عندئذ يأذن الدين لحاملي رسالته في وجه ذلك العدوان ان يقاومون بالمجاهدة ما داموا هم يجادلون بالتي هي أحسن ويكفون، ولا يبادرون بالقوة والعدوان وانما اضطروا لمجاوبة العادي سيئة بمثلها دفاعاً وقتالاً {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله ولو دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز}. [39][39]
وفي المذاهب السياسية الغربية ما يجعل المقاومة والمجاهدة والمقاتلة نهجاً مشروعاً في سبيل الحرية (Freedom Frighting, Struggle, Resistance).
واذا دارت معارك المرافعة وكان النصر لحزب (الاصلاح) بانحياز قوة جماهير من الناس يدركون الظلم ويحملون عليه، فأصبحت العاقبة والدولة لمشروع (الإصلاح)، فقد تأتي حركة التغيير فجأة انفجاراً وتحولاً، فتكون في حركة المجتمع وحياته (ثورة) هائجة وتقلب اوضاعه (Revoluation).
وقد تكون الثورة شاملة لغالب مساقات الحياة، او تأتي حركتها قاصرة على تبديل مواقع السلطة والغنى والجاه، التي كانت تتغالب عليها قوى من سادة واحزاب وطبقات وأقوام وطائف.
وكلمة (الثورة) اصبحت شعاراً شائعاً محبوباً بأثر كثير من التجارب ذات الوقع التاريخي الهائل، ولذلك يتخذ الشعار عنوانا لحركات تغيير شتى مهما كانت المواقع والمقاصد محدودة. وقد لا تكون حركة القوة الا مبادرة عدوان او مجاوبة دفاع لكنها لا تصوب الا على الشريحة المتمكنة المتحكمة في السلطان، وتسمى عندئذ (انقلاباً) (Coup d’Etat) وهي ضربة لخلع ذوي السلطة ونزعها منهم، وربما تهدف من وراء ذلك للتمكن من تسيير كل الحياة العامة وتغيير ميزان المصالح والسلطان، وسياسات الأمن والعدل والسلطان، او ما هي الا طمع ممن قلب الحكم وغلب ليتمتع هو من بعد السلطة ويصرف الأمر العام ولا يبلغ كسباً مقدراً من (الاصلاح) الا شعارات ودعاوى.
ومهما تكن سنن التحولات السلطانية البشرية فان شرعة الدين ومنهاجه حقاً ان يقوم (بالإصلاح) سواد مجتمع المؤمنين الموحدين الذين ان مكنوا في الارض دعوة او جهاداً، اقاموا شعائر الصلة بالله دفعاً وتقوى وآتوا الزكاة تكافلاً وعدلاً وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، اجماعاً على سياسة استقامة في سبيل الصلاح والفلاح في الخاتمة.
توقيع : mr mohamed zakaria |
|