مهدي مجيد عبد الله
ما تزل الديمقراطية في العالم العربي تعاني من ازمة تأطيرها وبلورتها ضمن سياقات وعبارات مفاهمية وتطبيقية في نفس الوقت، والاسباب متعددة لا فرصة لذكرها ضمن سطورنا هذه، رغم هذا نذكر عدة تعاريف تقاربية من ماهية الديمقراطية في ماضيها وحاضرها فضلا عن الحالة( الازماتية) المعرقلة لتواجدها الحقيقي في كينونتها المستمرة :-


_ التعريف التقليدي للديموقراطية :
تعود كلمة ديموقراطية Democracy إلى أصل إغريقي وتعني حكم الشعب أوسلطة الشعب، فهي في اليونانية تتكون من مقطعين، الأول Demos ومعناه الشعب، والثاني Kratin ومعناه حكم أوسلطة، ويعتبر هذا التعريف من أقدم تعاريف الديمقراطية.
_ بينما يعرفها أحد الرؤساء الأمريكيين السابقين Lincoln بأنها حكم الشعب بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب.
_ أما الفقيه Seely يعرف الديمقراطية بأنها (النظام الذي يملك فيه كل فرد نصيبه). بينما يعرفها البعض بالحكومة التمثيلية للعدد الأكبر.
_ أما الديموقراطية الحديثة:
تعرف بأنها منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها وهي مبادئ ومؤسسات تمكن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح .
تهيئة اولية :-
أن التوجه الديمقراطي يركز على الحريات العامة وحقوق المواطن وخاصة حرية الرأي والرأي الآخر والتعددية الحزبية وتأليف الأحزاب والانضمام إليها ، هذه الحقوق تمثل في الوقت نفسه جوهر حقوق الإنسان وحرياته الأساسية مثل حق المساواة والعدالة.
لكن على الساحة العربية لدينا المفاتيح العجائبية ، مفاتيح النقلة الفجائية ( أي المعجزة) بدون مجهود ولا كلفة ولا زمن، من واقع التأخر إلى مثال التقدم ففكرة الديمقراطية تضطلع اليوم بالوظيفة نفسها التي اضطلعت بها في طور فائت فكرة الاشتراكية، وفكرة الثورة، ومن قبلها فكرة الوحدة، أوفكرة النهضة.........
الكل يحلم بموضوع الانتقال إلى الديمقراطية خصوصا فترة ما بعد استقلال الشعوب العربية ، حيث اتسمت (فترة ما بعد) بتعقيد ظروف الصراعات الخارجية والنزاعات الداخلية .
النقطة المهمة هي ( الثقافة الديمقراطية ) لا يمكن الحديث عن الديموقراطية ومسألة الانتقال إليها دون وجود ديمقراطيين بشكل عام . فضعف الثقافة الديمقراطية لدى النخب الحاكمة وغير الحاكمة يشكل عائقاً .
المفهوم العمودي والمفهوم الأفقي للديمقراطية :
الديمقراطية، هي الوسيلة التمثيلية للعدد الأكبر . والعدد الأكبر متغير دائم ، والغالبية في الديمقراطية أفقية لا عمودية .
ما هوعامودي في المجتمع هوكل ما له صلة بالهوية، سواء تجلت هذه الهوية بالدين أوالطائفة أوالأثنية أوالطبقة .
أما الأفقي ماهوعابر لتلك الكيانات، ونظراً إلى ضعف ثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية فإنه كثيرا ما يُلحظ انزياح في تصور عامة الناس من المفهوم الأفقي للغالبية إلى مفهومها العمودي . فنصاب الغالبية عندهم جوهري لا عرضي ومسرح الصراع هوالمجتمع نفسه، في عمق عمقه، لا مؤسسات السطح السياسي من برلمان أوغيره .( ديانة في مواجهة ديانة ، طائفة في مواجهة طائفة، أثنية في مواجهة أثنية.
لب الازمة :
مصيبة العالم العربي لا تكمن في كون معظم حكوماته ديكتاتوريات ومن طبيعة عسكرية في الغالب، بل كذلك في كون هذه الديكتاتوريات قد تحولت في العقود الأخيرة من ديكتاتوريات أفقية إلى ديكتاتوريات عمودية ترتكز على عصيبات دينية وطائفية وقبلية، وغير قابلة للتغير إلا بكلفة بشرية باهظة.
ومما يزيد في وخامة الصورة أن الديكتاتوريات لا تواجه في الغالب من قبل المعارضات من مواقع ديمقراطية. فالمعارضات العربية، شأن الديكتاتوريات التي تعارضها، تقف في الغالب على نفس الأرضية الطائفية أوالقبلية، لكن من خندق مضاد . وليست الديكتاتورية بحد ذاتها هي موضوع المعارضة، بل طبيعتها الطائفية أوالقبلية المغايرة . على هذا النحوليست الديمقراطية هي المرشح لأن تخلف ديكتاتورية . فالديكتاتورية ستبقى بينما الطائفة أوالعشيرة هي فقط التي ستتغير .
الفرد الديمقراطي يقف حائراً، في وضعية الاستقالة . ما دام مسلسل الديكتاتوريات على التوالي، إن ما يحتاجه العالم العربي ليس تغير الحكومات لاسيما أن مثل هذا التغيير بات عال الكلفة، فضلا عن دورانه على محور فارغ، بل “ أخذ الوقت “ لبذر الثقافة الديمقراطية من خلال فترة “ هدنة “ تعلق فيها شعارات إسقاط الأنظمة القائمة لصالح مطالب إصلاحات ديمقراطية متدرجة تبدأ من الشارع .
هذه الاستراتيجية الطويلة لا تخدم في نهاية المطاف سوى الديكتاتوريات والطريق إلى الخروج من هذه الدائرة المقفلة هوالانتقال من مفهوم عمودي للغالبية إلى مفهوم أفقي وليس للغالبية الأفقية سوى مكان واحد للتظاهر فيه(البرلمان ) مسرح العنف اللفظي والرمزي، لا رحبة المجتمع مسرح العنف الفعلي وفي حال غياب البرلمان الديمقراطي ( وذلك حال أغلب البلاد العربية) فإن الشارع يمكن أن ينوب مؤقتا منابه . الشارع الأفقي كنقطة تجمع مكشوفة في التظاهرات السلمية التي تتسع لمشاركة جميع الطبقات وجميع طوائف الأمة، وليس الخلايا السرية التي لا تجيد سوى العنف والإرهاب . وحدها الديكتاتوريات التي تسقط بلا عنف ( بإجماع الشارع ) البديل المرحلي لبرلمان الأمة – أما العنف ليس من شأنه ولوكان مضادا إلا أن يؤبد الديكتاتورية . وزهرة الديمقراطية لا تنموأبدا في تربته .
تبصير لحل الازمة :-
الديمقراطية لا يمكن أن تكون نظاما فصامياً ، لا يمكن أن تكون نظاما للحكم بدون أن تكون نظاما للمجتمع ، لا يمكن أن تسير العلاقات بين الحكام والمحكومين بدون أن تسير العلاقات بين المحكومين أنفسهم، مع أنها بالتعريف نظام للدولة لكنها بالجوهر نظام للمجتمع المدني .
فالديمقراطية ظاهرة مجتمعية والمجتمع في المقام الأول نسيج من العقليات
والحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع أما الصندوق الأول الذي تنطلق منه هوجمجمة الرأس وإن لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع فإن الأخير لن يكون إلا معبرا إلا عن طغيان غالبية العدد .
إن الأنظمة العربية القائمة تقيم العثرات أمام الآلية الديمقراطية، والمجتمعات العربية الراهنة تقيم العثرات أمام الثقافة الديمقراطية، فالأنظمة العربية لا تتحمل (انتخابا حراً ) والمجتمعات العربية لا تتحمل (رأيا حراً ) حتى المثقفين يريدون الديمقراطية في السياسة ولا يريدونها في الفكر .
يجب أن تأخذ الديمقراطية في أكمل أشكال تطورها وأكثرها إنجازا ( لكن ، الأجسام المريضة تتفاوت في قدرتها على تحمل الجرعات من الدواء الواحد ) والمجتمعات العربية غير مهيأة بعد لتحمل جرعة الديمقراطية .
حتى إذا رضينا باختزال الديمقراطية ، أي منطق في موقف من يعتبر المرآة بنصف عقل ومن يصر على حرمانها من حقها في الإرث وفي الأهلية القانونية ، الديمقراطية بحاجة إلى تبيئة وتدرج .
من غير المنطق أن نتصور زهرة الديمقراطية – تنموفي تربة الأمية أوحتى النصف أمية وفي بحر الانفجار السكاني الذي تشهده المجتمعات العربية مع ما يعنيه هذا الانفجار اللامسيطر عليه من توسيع وتعميق لقاع الأمية ، فإن سفينة الديمقراطية لا تستطيع مهما يكن ربانها ماهراً وهوفي الدولة العربية غير ماهر أن تنجز بأمان رحلتها إلى شاطئ الأمان .