mr mohamed zakaria المدير العام ADMIN
عدد المساهمات : 10377 الدولة : المهنة :
| موضوع: الحياد الايجابي للقاضي في النزاع المدني 2 السبت يناير 10, 2015 3:52 am | |
| وهو ما كرّسه المشرع الفرنسي في المادة 8 م م م الذي يجيز للقاضي "دعوة الأطراف لمده ببعض التوضيحات المتعلقة بالوقائع الضرورية لحل النزاع". إنّ حسم الامر وتحديد حقيقة دور القاضي في النزاع المدني أمر على غاية من الأهمية. لأن طبيعة الدور الذي يؤديه سيساهم بصفة جوهرية في تكييف عملية البحث والكشف عن الحقيقة التي يكرسها الحكم القضائي. فهل هي حقيقة موضوعية أقرّها القاضي بعد تأكده شخصيا من وجودها؟ أم أنها مجرد حقيقة ذاتية اعتمدها القاضي لأن صاحبها تمكن من إثباتها فقط لا غير؟ و الإجابة عن هذا التساؤل ليس بالأمر الهين خاصة وأن مادة الإجراءات المدنية تتجاذبها العديد من المبادئ المتداخلة والمتشابكة يؤدي الخوض في أي منها إلى التطرق حتما للبقية لهذا فإن الإجابة تكون عبر الإجابة عن الإشكالية التالية: ما هو الدور الحقيقي لكل من القاضي والأطراف في النزاع المدني؟ وتحديدا معرفة إلى أي مدى أقرت القانون التونسي دورا ايجابيا للقاضي في النزاع المدني؟ وللإجابة عن ذلك سنتعرض أولا إلى تكريس الدور الايجابي للقاضي المدني.)الجزء الأول( لنمرّ بعد ذلك إلى بيان مظاهر الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني. (الجزء الثاني). الجزء الأول – تكريس الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني:
تخضع الخصومة القضائية لجملة من الأحكام والقواعد الإجرائية تهدف جميعها إلى تحديد دور كل من القاضي والأطراف أثناء مرحلة تحقيق الدعوى، وهذه القواعد والأحكام يمكن حصرها في اتجاهين متباينين هما : النظام الإدعائي. النظام الاستقرائي. ففي النظام الإدعائي يكون القاضي بمثابة الحكم الذي لا يبحث بنفسه عن الحقيقة أي أنه يرتكز على مبدأ حياد القاضي الذي لا يتدخل في الخصومة الدائرة أمامه، وإنما يراقب فقط تهيأة المتقاضين للقضية وجمع الأدلة المثبتة لحقوقهم، فالأطراف هم الذي يسيرون الإجراءات . ورغم اندثار النظام الادعائي في القضاء الجزائي فإنه بقي معمول به في النزاعات المدنية على اعتبار أنها لا تتعلق إلا بالمصالح الخاصة، وبالتالي فلا يمكن لعون السلطة العامة أن يتدخل في العلاقات الخاصة وعليه فقط أن يكون على ذمة المتقاضين الذي يملكون حرية تامة في تسير نزاعاتهم حسب مصالحم . فالدعوى في هذا النظام تتحول إلى شكل من "المبارزة" بين الخصمين يحددان فيها بأنفسهما بدء النزال ويستفيد كل منهما من أخطاء الآخر. أما الحاكم فإنه يقف متفرجا أكثر منه موجها لأنه يصبح حكما لمباراة وليس موظف عمومي أنيطت به إدارة مرفق عام ومن هذا المنطلق أصبح دور القاضي سلبيا في النزاع المدني إلى درجة تشبيهه بالآلة التي تزود بمواد القضية لتخرج حكما" .. وبرز هذا النظام بالخصوص خلال القرن 19 نتيجة للأفكار التحررية التي سادت أنذاك، وقد كان هذا التصور الصارم لدور القاضي نتيجة للنزعة التحررية التي سادت بالخصوص في القرن التاسع عشر وتجسم هذا الاتجاه في مجلة المرافعات المدنية الفرنسية القديمة لعام 1806 التي حدد دور القاضي فقط في التدخل عندما تظهر صعوبات إجرائية أثناء الدعوى . أما النظام الاستقرائي فلقد بدأ بالظهور في أواخر القرن 19 على إثر الانتقادات التي وجهت إلى النظام الدعائي والمتمثلة خاصة في أنه يساعد بعض المتقاضين على القيام بمناورات لربح الوقت وتعطيل سير القضاء والابتعاد عن الحقيقة الموضوعية. فالقاضي في هذا النظام يخرج عن دور الحكم ليلعب دورا في البحث عن الحقيقة بنفسه، فالقضاء مرفق عام يسعى إلى إرجاع وإقرار المشروعية الموضوعية، لذا فمن الطبيعي أن يتدخل القاضي في تسيير الخصومة وخاصة إجراء الأبحاث في نطاق تهيئة القضية للحكم. فالحياد لا يعني الجمود والسلبية باعتبار أن السلبية تتنافى والوظيفة القضائية التي ترمي إلى تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع. ولقد اعتمد هذا النظام في عدة قوانين إجرائية مثل مجلة المرافعات الألمانية لعام1877 والنمساوية لعام1895، ويعتبر قانون المرافعات المدنية التونسي لسنة1910 الصادر في 24 ديسمبر 1910 من أوائل التشريعات العربية المتأثرة بهذا الاتجاه الذي يجعل القاضي يقوم بدور إيجابي في تسيير الخصومة وتهيئة القضية للحكم . إلا أن المشرع التونسي بعد الاستقلال تراجع عن موقفه هذا عند إصداره لـ م م م ت لسنة1959 التي تضمنت أحكاما تجسم اتجاها معاكسا تماما إلى أن وقع تنقيحها بموجب قانون غرة سبتمبر1986 الذي أعاد من جديد ملامح النظام الاستقرائي الذي يعتبر تراجعا نسبيا عن مبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين. مبررين أساسيين متكاملين
فهذا النظام ينبني على أفكار تتعارض مع إعطاء المتقاضين سلطة و مطلقة في النزاع المدني وذلك انطلاقا من مبررين أساسيين متكاملين يعتبران وجهين لحقيقة واحدة مفادها أن النزاع المدني لا يهم طرفيه فقط وهذين المبررين هما: - الصبغة الاجتماعية للنزاع المدني ( الفقرة الأولى). - التصور الجديد لحقيقة القضائية (الفقرة الثانية). الفقرة الأولى - الصبغة الاجتماعية للنزاع المدني:
يقوم المفهوم الكلاسيكي للنزاع المدني والذي كان سائدا بالخصوص في القرن 19 الذي تميز بظهور الاتجاهات الفردية التحررية، على أن الخصومة لا تهم سوى مصلحة المتنازعين ولا تعني المجتمع ولا النظام العام في شيء، ومهمة القاضي تنحصر في إنهاء النزاع حسب المعطيات التي يقدمها الأطراف. فغاية الخصومة ليست الكشف عن الحقيقة شأنها شأن الحرب التي لا تهدف إلى انتصار الحق. فالدعوى التي تتعهد بها المحكمة بطلب من المتقاضين تهدف أساسا إلى المطالبة بحقوق ذاتية لا تهم إلا المتنازعين الذي لا يرغبون إلا في كسب القضية واستصدار أحكام لصالحهم مستعملين في سبيل ذلك كل الوسائل والدفوعات، بينما يكون دور القاضي سلبيا إن لم يكن منعدما فالدعوى ملك لأطرافها يشكلون بنيانها الواقعي والقانوني ويسيرونها بالطريقة التي تخدم مصالحهم دون أن يكون للمحكمة سلطان عليهم في ذلك فالقاضي ليس إلا حكما يراقب النزاع ويسجل الأهداف . كما أن الحقيقة التي تقرها المحكمة حسما للنزاع هي حقيقة نسبية من صنع المتقاضين أكثر مما هي من عدل القاضي الذي يقتصر دوره على مشاهدة المبارزة والإعلان عن الفائز الذي قد لا يكون بالضرورة صاحب الحق، فيصبح القاضي أقرب إلى الحكم منه إلى مكلف بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين، فهو لا يقضي انطلاقا من قناعة باطنية شخصية بل لأن مجموع الحجج المدلى بها أمامه خلقت يقينا مفترضا أعطى الحق لأحد الطرفين. غير أن هذا المفهوم للنزاع المدني لا يخلو من شطط إذ أنه ولئن كانت المصالح الخاصة هي محور الدعوى المدنية باعتبارها تهدف إلى تحقيق الحقوق الذاتية أو المحافظة عليها فإن أصحاب تلك الحقوق هم في الحقيقة خلية من خلايا المجتمع وما المصلحة العامة إلا مجموع المصالح الخاصة باعتبارها العناصر المكونة لها وأن أي مس بحقوق أفراد المجتمع يشكل نيلا من المصالح الجماعية . وبما أن القاضي يستمد نفوذه من القانون، ويقوم بوظيفته بتفويض من الدولة، فإن حكمه هو عمل قضائي يجب أن يكون مطابقا للحقيقة الموضوعية، ولبلوغ هذه الحقيقة لا بد من إعطاء القاضي نفوذا وصلاحيات تساعده عن الكشف عنها وتخليصه من قيود الحياد السلبي، فالحياد المفروض عليه لا يجب أن يفسر بالسلبية إذ لا يمكن أن نعتبر أن الحياد يتعارض مع ما للحاكم المدني من أهداف لبلوغ العدالة المثالية . فالخصومة ليست مجرد مبارزة قضائية بين شخصين فعلى الرغم من أن نهايتها لا تهم إلا طرفيها بالدرجة الأولى إذ أنّها تمكن المحكوم له من الحصول على مطالبه، إلا أن لكيفية حسمها أثر على كامل المجتمع لأن التداخل والترابط بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة ثابتان دون شك لهذا ظهر اتجاه واضح في جل التشريعات الحديثة يميل نحو الحرص على أن يسعى القاضي عند البت في النزاعات المدنية إلى الكشف عن الحقيقة المطلقة لا إلى مجرد الحقيقة النسبية التي قد تكون مفتعلة من أحد المتقاضين . فدور القاضي المدني الأساسي هو الكشف عن الحقيقة وإيصال الحقوق خالصة لأصحابها ولأن العدالة مرفق عام خدماته هي توفير العدل للمتقاضين لابد أن يتم منحهم نفس الفرص للدفاع عن حقوقهم ومساعدة من تعوزه الوسيلة للكشف عن الحقيقة وعلى هذا النحو يساهم القاضي من جانبه في توفير الأمن والاستقرار الاجتماعي. ولقد تبنت محكمة التعقيب التونسية هذا التوجه في قرارها عدد 1197 المؤرخ في 21 ديسمبر 1978، والذي جاء فيه "على الحاكم تحرير حقيقة الأمر بنفسه أو بتكليف أهل الخبرة" . فمحكمة التعقيب في هذا القرار تبرز مختلف إجراءات البحث التي يتخذها قضاة الموضوع بإرادة اكتشاف الحقيقة وبذلك أصبح هذا الهدف من أبرز وظائف القضاء الذي لم يعد يحاول الإسراع في فصل النزاع بل يجتهد في البحث عن الحقيقة . وهو ما جسده المشرع التونسي في م م م ت الفصل 86 المنقح في قانون غرة سبتمبر 1986، الذي ينص على أنه "للمحكمة إجراء أبحاث معينة... أو غير ذلك من الأعمال الكاشفة للحقيقة...". فأحكام هذا الفصل تكرس نظرة اجتماعية للنزاع المدني لأن مهمة القاضي لم تعد مجرد فصل القضايا بل فصل النزاعات طبق القانون وعلى أساس معطيات صحيحة، لذلك عليه أن يبحث عن الحقيقة بنفسه إذ أنه لا يمكن أن يكون العمل القضائي إيجابيا إلا إذا انبنى على معطيات صحيحة، فيكون الحكم مطابقا للحقيقة. وبما أن الأحكام القضائية هي من عمل القاضي وتجسم مظهرا من مظاهر العدالة فإنه لا يمكن ترك المتقاضين يتصرفون في الدعوى على هواهم ووفق مصالحهم دون اعتبار لمدى شرعية طلباتهم مستعملين أحيانا وسائل غير مشروعة دون التقيد بالقيم الأخلاقية فهم لا يسعون إلى إدراك الحقيقة الموضوعية، وإنما يسعون إلى إدراك حقيقتهم الذاتية. ولهذه الأسباب أكدت محكمة التعقيب أن "مهمة القاضي ليست مجرد فصل القضايا بل فصل النزاعات طبق القانون وعلى أساس معطيات صحيحة، وهذا يدعو القاضي إلى عدم التقيد بما يقدمه المتقاضين من وسائل دفاع ومستندات إذ قد تكون منقوصة بل عليه أيضا أن يبحث بنفسه عن الحقيقة ولا يمكن أن يكون العمل القضائي إيجابيا إلا إذا انبنى على معطيات صحيحة فيكون الحكم مطابقا للحقيقة وعلى القاضي الكشف عنها باتخاذ ما يراه ضروريا من الأعمال وقد خوّل الفصل 86 م م م ت للمحكمة الإذن بكلّ الأعمال ذات الصبغة الاستقرائية الرامية أساسا للكشف عن الحقيقة" . كما جاء بالفصل 114 من نفس المجلّة أنه "إذا لم تجد المحكمة بالملف الإيضاحات الكافية يمكنها أصالة منها الإذن بإحضار الشهود أو الخبراء بالجلسة الذين ترى منفعة في سماع شهادتهم". لهذا فإن النظرة الحديثة للنزاع المدني ترى أنه يرتكز على عنصرين: - أولهما أن هذا النزاع يتعدى المصالح الخاصة للمتقاضين ليشمل أيضا المصلحة العامة. - وثانيهما واجب الأطراف في التعاون ومساعدة القاضي للكشف عن الحقيقة الموضوعية أي المطلقة. فالعبرة في النزاع المدني ليست في فصل القضايا بل في إنهاء النزاع بصفة عادلة بإعطاء كل ذي حق حقه، وهذا لن يتحقق إذا ترك القاضي المعركة القضائية تدور بين المتقاضين دون أن يكون له دور إيجابي فيها خاصة في وقت كثرت فيه الخزعبلات والحيل والمغالطات. فإذا كان الأطراف أحرارا في عدم طرح نزاعهم إلى القضاء فإنه عليهم عند اللجوء إليه أن يقدموا المعطيات الصحيحة إذ لا يمكنهم أن يسيطروا على الوقائع وعلى الحجج إذ المفروض أن يكون النصر حليف صاحب الحق لا حليف الأقوى. لذا فلا بد أن تتوفر في الخصمين النزاهة اللازمة لكشف الحقيقة، لكن لو تحقق هذا لما كان للنزاع أن ينشب أصلا بينهما، فالبحث عن الحقيقة هو شرط أساسي وضروري للحكم بالحق، ولي يكون الحكم عادلا فلا بد أن ينبني على معطيات صحيحة وعناصر مطابقة للواقع، وحتى ينصف القاضي المتقاضي ويبت في النزاع لصالح صاحب الحق فلا بد أن تتوفر لديه المعطيات الصحيحة ولن يتحقق ذلك إلا إذا أعطى القاضي دورا إيجابيا في البحث عن الحقيقة. الفقرة الثانية – التصور الجديد للحقيقة القضائية:
يذهب البعض إلى أن المعنى المباشر لمبدأ حياد القاضي هو أن القاضي ليس له أن يتخذ أي مبادرة في البحث عن وسائل الإثبات . فالمقصود بالحياد هو إذا أن يقف موقف سلبيا من كلا الخصمين فيما يتعلق بإثبات الدعوى فالقاضي لا يمكنه أن يأسس قناعته إلا على عناصر الإثبات التي أدلى بها الأطراف ولا يمكنه التدخل تلقائيا في البحث عن الحقيقة . ففي المادة المدنية يقع على كاهل المتقاضين عبء تقديم الأدلة المثبتة لحقوقهم ودعواهم. فمبدأ حياد القاضي يتمثل أساسا في عدم اتخاذ أي مبادرة للبحث عن الحجج لصالح أحد الطرفين والاكتفاء بما يقدمه المتقاضين من أدلة واعتمادها دون غيرها، وهو ما يندرج في إطار المفهوم الكلاسيكي للنزاع المدني القائم على فكرة أنه مجرد نزاع بين طرفين لا يهم إلا مصالحهم الخاصة. لكن هذا المفهوم وقع تجاوزه، وأصبحت الدعوى المدنية ينظر إليها لا فقط على أنها مجرد نزاع فردي يدور بين شخصين، إنما أيضا على أنها ظاهرة مرضية في البناء الاجتماعي تل على وجود خلل فيه تلزم معالجته بأسلوب قانون يحد من آثاره الاجتماعية السلبية. ولهذا فلا بد من القضاء على فلسفة القاضي "مكتوف اليدين" التي سادت في القرن 19 كمظهر من مظاهر النزعة التحررية المتطرفة التي ترى أن القضاء وإن كان مرفق عام فإنه يجب أن يكون على ذمة المتقاضين وهم أحرار في تسيير النزاع وفق مصالحهم ويقع عليهم وحدهم واجب الإدلاء بحججهم المثبتة لحقوقهم. فصحيح أن النزاع المدني يهم بالدرجة الأولى مصالح المتقاضين إلا أن الفصل فيه يرجع إلى القضاء باعتباره مرفقا عما بل أنه أحد السلطات الثلاث وأهم وظيفة من وظائف الدولة ومظهر من مظاهر السيادة. فهو يستمد وجوده من وجود الدولة التي احتكرت لنفسها سلطة الفصل في النزاعات ومنعت الأفراد من اقتضاء حقوقهم بأنفسهم. فالقاضي هو الشخص المكلف بمهمة تطبيق القانون، لذا حصل تغيير كبير في النظرة إلى دور القاضي في نطاق الدعوى المدنية، أخرجه عن دوره السلبي الذي كان يرسمه له فقه المرافعات التقليدي، من أنه مجرد حكم يعد الأخطاء ليعلن في النهاية تفوق أحد الخصمين، دون أي دور مؤثر وفعال له في الدعوة. بل على العكس من ذلك ذهبت الكثير من التشريعات اليوم نحو منح القاضي دورا إيجابيا في النزاع كي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة وذلك من خلال منحه صلاحيات قانونية تتيح له مثل هذا الدور الإيجابي . فقد برز في السنوات الأخيرة اتجاه مبني على تصور جديد للحقيقة القضائية، مبني على إخراج القاضي المدني من عزلته وحياده وتحطيم القيود الإجرائية المكبلة له والتي تحجب عنه الحقيقة الصحيحة، فيساهم مساهمة إيجابية في البحث عنها . خاصة وأن الأحكام تصدر باسم الشعب وهي تتضمن عنصرين: • - أولهما فصل النزاع طبق القانون من طرف القاضي. • - وثانيهما الأمر بتنفيذه بواسطة القوى العامة عند الاقتضاء . • ويتمتع الحكم القضائي البات كذلك بقرينة اتصال القضاء (الفصل 480 م أ ع وما بعده). فحكم هذه خصائصه وتلك هي قوته لا يمكن أن يكون نتيجة لمبادرات المتقاضين دون سواهم ولا يعقل أن يرتكز على الوقائع التي يكيفونها حسب مشيئتهم ومصالحهم ولا يجوز تبع لذلك تجريد القاضي من نفوذ تسيير الدعوى وجعل دوره سلبيا في النزاع لا يتخذ أية بادرة إجرائية للكشف عن الحقيقة، خاصة وأنه يقوم بمهمته بتفويض من الدولة وبالتالي فلا بد أن يكون حكمه مطابقا للحقيقة الموضوعية وينبغي أن تكون له كامل الصلاحيات والإمكانيات لتحقيق المساواة بينهم . تلك المساواة التي اعتبرها البعض أساسا لتكريس الحياد السلبي للقاضي على أساس وأن النزاع المدني يكون عادة بين أطراف أحرار ومتساوين وبالتالي لا يمكن للقاضي أن يحل محل أحدهم للبحث عن حقيقة قد يكون تعمد إخفائها . لكن هذا الرأي في الحقيقة مبني على تصورات افتراضية تتجافى والواقع، فالمتخاصمين ليسوا دائما متساوين في الذكاء والدهاء والمعرفة بالقوانين والإجراءات، لهذا يمكن أن يكون المحكوم له بالحق ليس بالضرورة هو صاحب الحق فعلا . فالقاضي إذن مطالب بالبحث عن الحقيقة الموضوعية فلا يحكم لصالح الغني أو الفقير أو الغبي أو الفطن بل لفائدة صاحب الحق ، وهو مدعو إلى تمكين المتقاضين من حقهم في إثبات دعواهم وذلك بأن يعمل على إزالة العراقيل التي تعترض المتقاضي وتمنعه من إثبات حقوقه فيمكنه من ممارسة حقه في الإثبات طبق القواعد والإجراءات القانونية واحترام حقوق الدفاع وجعل الأطراف متساوين أمام هذا الحق الأساسي حتى يكون الحكم أقرب ما يكون إلى الواقع الصحيح لأن سير القضاء يقتضي الوقوف على الحقيقة ولا يتحقق ذلك إلا بتوفير الإمكانيات لكل أطراف الخصومة لإقامة الدليل على وجود حقوقهم، ومبدئيا لا يمكن إدراك هذه الغاية إلا بجعل القاضي يقوم بدور إيجابي في الدعوى. ولقد كرّس المشرع التونسي مبدأ حياد القاضي في الفصل 12 م م م ت الذي ينص حسب صياغته بعد تنقيح 3 أفريل 1980 على ما يلي: "ليس على المحكمة تكوين أو إتمام أو احضار حجج الخصوم". وهذه الصيغة أثارت جدلا في القضاء التونسي الذي ذهب في تأويله لأحكام هذا الفصل في اتجاهين متناقضين . يرى الأول أن أحكام هذا الفصل تكرس الحياد الإجباري على القاضي. بينما يرى الاتجاه الثاني بأن هذا الفصل يكرس حيادا اختباريا للقاضي وهو التأويل الأقرب للصواب. وقد أقرت محكمة التعقيب المفهوم الايجابي لحياد القاضي المدني ضمن العديد من القرارات من بينها القرار الصادر في 3 نوفمبر 1993 الذي ورد فيه مايلي: "الإذن من طرف المحكمة لإجراء الأبحاث العينية والاختبارات والبحث وزيادة الإيضاح لا يعد ذلك سعيا منها في تكوين وإحضار حجج الخصوم ولا يجسم خرقا لأحكام الفصل 12 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية بل هو من قبيل وسائل البحث التي يمكن لمحكمة الموضوع أن تأذن بإجرائها ولو تلقائيا للكشف عن حقيقة تحت الحاجة لذلك وفق ما خول لها الفصلان 86 و114 من نفس المجلة." كما جاء في القرار التعقيبي المدني الصادر بتاريخ 26 جانفي 1993 أن "من أهم واجبات المحكمة الإذن بإجراء الأبحاث العينية والاختبارات وزيادة البحث والإيضاح كلما دعت الحاجة لذلك ولا يعد ذلك سعيا منها في تكوين وإحضار حجج الخصوم". ومن أبرز القرارات المجسمة لهذا التوجه القرار التعقيبي عدد 6957 الصادر في 26 ماي 1970 الذي جاء فيه : "أن الشيء الذي لا يجب على المحكمة القيام به إنما هو السعي في تكوين أو إتمام أو إحضار حجج الخصوم حسب الفصل 12 م م م ت وإما تحرير الحقيقة في الموضوع بإلقاء الأسئلة على المتقاضين واستجوابهم ومطالبتهم بالإدلاء بمؤيداتهم والإذن بإتمام ما يلزم لفصل القضية فإنه يعتبر من أبرز واجبات المحكمة ودورها من هذه الناحية ليس سلبيا" . ولهذا يمكن القول ان الدور الايجابي للقاضي المدني مقيد بحدين هما عدم جواز القضاء بالعلم الشخصي وضرورة الحفاظ على مبدأ المواجهة بين المتقاضين. توقيع : mr mohamed zakaria |
|
|
|