كيف تنتقل نظم الحكم إلي الديمقراطية

2012/04/02 - د‏.‏ عبدالفتاح ماضي*




كما تستخلص عددا من الدروس والعبر من هذه الحالات , التي جاءت في دراسة موثقة ومطولة للكاتب نشرت ضمن كتاب :' لماذا انتقل الآخرون إلي الديمقراطية وتأخر العرب ', الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام .2009

أولا : مداخل الانتقال إلي نظم الحكم الديمقراطي :

لم يتفق باحثو السياسة علي تصنيف واحد لمداخل الانتقال إلي الديمقراطية , ولهذا سنعرض فيما يلي تصنيفا مقترحا , يتجنب الحديث بالتفصيل عن فرض الديمقراطية من الخارج . فبرغم نجاح الديمقراطية في ألمانيا واليابان بعامل التدخل الخارجي , فإن محاولات الإصلاح العربية لابد أن تتجنب أي تدخل خارجي وذلك لاعتبارات عدة لا مكان لها في هذه المقالة المقتضبة . وباختصار لا يجب تكرار تجربتي أفغانستان والعراق في أي قطر عربي آخر .

1 ـ الخروج من حكم الاستعمار إلي الحكم الديمقراطي مباشرة :

اختار قادة الاستقلال في الهند وماليزيا الانتقال مباشرة من حكم الاستعمار إلي الحكم الديمقراطي . لقد كان الخيار المناسب لهم هو الاتفاق علي قواسم مشتركة للتعايش المشترك والتفاهم , هي النظام الديمقراطي بخصائصه ومؤسسساته وممارساته وضوابطه وضماناته المتعارف عليها . وكانت صيغة الحزب الوطني الجامع العابر للأعراق والأديان في الهند ( حزب المؤتمر ) وفي ماليزيا ( حركة منظمة الملايو القومية المتحدة ـ UMNO)) من أفضل الوسائل التي ساعدت قادة الاستقلال علي بناء قدر كبير من التوافق والإجماع الوطني الضروري في الدولتين غير المتجانستين سكانيا .

ترجم قادة حزب المؤتمر الهندي توافقاتهم التي صاغوها قبل الاستقلال في الدستور الذي جاء تعبيرا عن رأي الأغلبية , ومستفيدا من الكثير من الدساتير الديمقراطية في ذلك الوقت , مثل الشكل البرلماني , وسيادة البرلمان وحكم القانون , وآلية المراجعة القضائية , الشكل شبه الفيدرالي للدولة مع وجود حكومة مركزية قوية , وقائمة للحريات والحقوق , وضمانات لحقوق الأقليات , ودور قوي للدولة .

وفي ماليزيا , أدرك قادة الاستقلال واقع الاختلافات العرقية والدينية التي خلفها المستعمر البريطاني , وانطلقوا منه للتعامل معه بحكمة وبعد نظر , فاعتمدوا استراتيجية التماسك الاجتماعي والوحدة من خلال التنوع , أي قبول واستيعاب التعدد العرقي وتحويله إلي مصدر قوة للبلاد من خلال إيجاد تحالف سياسي عابر للعرقيات . ولهذا لم يلجأ هؤلاء إلي البديل الأكثر شيوعا في العالم الثالث , أي التنافس وقصاء الآخر . وقد حقق هذا الاختيار للبلاد استقرارا سياسيا امتد لعقود , وجنب النخب من اللجوء إلي الشارع للحصول علي الدعم .

كما حرص قادة الهند وماليزيا علي عدم تسييس الجيش وإقحامه في السياسة , وهذا عكس الحال في الباكستان مثلا . بجانب استفادة قادة الاستقلال هناك من الجانب الإيجابي للإرث الاستعماري الذي ورثته النخب المحلية , والذي من مظاهره بعض الممارسات والقيم الديمقراطية كالانتخابات , وإنشاء نظام بيروقراطي علي أسس محددة .

2 ـ تدرج الانتقال من نظم حكم الفرد إلي نظم الحكم الديمقراطي :

ويتضمن الانتقال هنا عدة مراحل أهمها مرحلة ضعف النظام القديم , وظهور جناح إصلاحي داخل النظام ( أو معارضة ديمقراطية خارجه ), ثم الانفتاح السياسي , فتطور الانفتاح إلي انتقال ديمقراطي , وهنا أظهرت التجارب الناجحة وجود أكثر من طريق :

( أ ) من أعلي بقيادة الإصلاحيين داخل النظام :

ويتسم هذا الطريق باقتناع الحاكم نفسه بعدم القدرة علي الاستمرار في الحكم بالطرق القديمة أو اقتناعه بالديمقراطية , أو ظهور جناح إصلاحي داخل الفئة الحاكمة , وتبني بعض الخطوات الانفتاحية , ثم قيادة هذا القائد أو الجناح الإصلاحي مهمة الانتقال إلي الديمقراطية . وهنا تكون قوة أحزاب المعارضة محدودة مقارنة بقوة الإصلاحيين داخل النظام , كما حدث في إسبانيا والبرازيل .

ففي إسبانيا , اعتمدت معادلة التغيير علي ظهور جناح الإصلاحيين داخل النظام ووصولهم إلي الحكم ( الملك خوان كارلوس ) ورغبتهم في التغيير , ومهاراتهم السياسية في إدارة الانتقال بشكل سريع وحاسم . بجانب التعبئة الاجتماعية وتكتل قوي المجتمع المدني والمعارضة من أجل الانتقال , واعتدال الخطاب السياسي لها تجاه الحكومة . وفي البرازيل , اختار جناح من المؤسسة العسكرية الديمقراطية والحكم المدني , وراح يناضل لسنوات لأجل الوصول إلي هذا الهدف معتمدا علي سياسة عرفت بخطوتين للأمام وخطوة للخلف .

( ب ) من خلال التفاوض بين الإصلاحيين من داخل النظام والمعارضة من خارجه :

وهنا لا يستطيع النظام البقاء علي الحالة التي اعتاد عليها من قبل , كما لا يمتلك الجناح الإصلاحي داخل النظام القوة التي تمكنه من قيادة الانتقال , ولا تكون لقوي المعارضة قوة تغيير النظام بمفردها , ولهذا يتم الانتقال عن طريق شروع النظام في التفاوض مع قوي المعارضة المعتدلة . وغالبا ما يتضمن الأمر عدة مراحل , تبدأ من ضعف أسس شرعية النظام , ومن ثم تبنيه بعض الخطوات الانفتاحية , فاستغلال قوي المعارضة هامش الانفتاح , وقيامها بتوسيع قاعدتها الشعبية , وتكثيف ضغوطها بهدف رئيس هو تغيير النظام . وعندما يصل الطرفان إلي قناعة مفادها استحالة انتصار أحد الطرفين علي الآخر , يبدأ التفاوض - أو ما يعرف بالاتفاق أو التعاقد (pact) حول الانتقال إلي الديمقراطية .

وقد يكون التفاوض بين النظام وقوي مناهضة للنظام بأكمله , كالتفاوض الذي شهدته جنوب أفريقيا بين حكومة الفصل العنصري واتحادات العمال والأحزاب . كما قد يأخذ التفاوض شكل المؤتمرات القومية , كما حدث في بنين والسنغال ومالي . وغالبا ما تتسم عملية الانتقال بالتأرجح بين الإضرابات والمظاهرات , وبالبطش والتنكيل بالمعارضين , ثم ينتهي الأمر بالتفاوض كما حدث في أرغواي 1983 وبوليفيا 1987, وبولندا 1988.

( ج ) الانتقال من أسفل بعامل التظاهرات الشعبية وقوي المعارضة الديمقراطية :

ويتم الانتقال هنا بعامل تصاعد الإضرابات والاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتغيير , وظهور قوي معارضة ديمقراطية واستغلالها المساحة التي يوفرها الانفتاح للضغط علي الحكام للاستجابة لمطالب المعارضة , وذلك كما حدث في الفلبين , كوريا , أوكرانيا , ونيكاراجوا , وإندونيسيا , وغيرها .

وهنا غالبا ما تلعب المعارضة الديمقراطية دورا محوريا في استغلال الانفتاح الناتج عن ضعف النظام , ومواصلة الضغوط للوصول إلي مرحلة الانتقال الديمقراطي , وذلك من خلال القيام بثلاث مهام استراتيجية , هي : توسيع قاعدة المنادين بالديمقراطية والاتفاق علي قواسم مشتركة بينهم . ومحاولة توحيد المعارضة ; دفع الحكام إلي مزيد من التنازل وقبول توسيع الانفتاح ; وأيضا دفع القوي الدولية الداعمة للنظام إلي التخلي عن هذا الدعم ومساندة المطالب الديمقراطية , أو علي الأقل عدم الممانعة في الانتقال .

ويستلزم هذا تنقية الخطاب السياسي للقوي المختلفة , وظهور قيادة ديمقراطية عاقلة تقدر المسؤولية , وصولا إلي أن يكون لتكتل المعارضة الديمقراطية اليد الطولي في الجانب المعارض . كما أن تعبئة المعارضة الديمقراطية للشارع كانت تتم بشكل ماهر , فكلما كانت التعبئة غير عنيفة , كلما قويت المعارضة الديمقراطية , وارتفعت تكلفة قمعها , وتعززت احتمالات نجاحها , كما حدث في كوريا والفلبين , وفي بعض دول أوروبا الشرقية .

ويجب علي المعارضة أن تحفاظ علي مساحة من الاستقلال عن النظام بالحفاظ علي النقابات والأحزاب القائمة ومنظمات المجتمع المدني , والعمل علي كسب دعمها وكذلك دعم أكبر عدد من المناصرين للديمقراطية من فئات مختلفة كالصحفيين والمفكرين والطبقة الوسطي والطلاب والعمال , فكلما اتسعت المساحة المتاحة للمعارضة , كلما قلت المساحة التي يوجد فيها النظام .

وعلي المعارضة الديمقراطية العمل , أيضا , علي إيجاد بديل سياسي للنظام القائم . فلم يكن المطلوب , في معظم الحالات , إنهاء النظام بأكمله وإنما الاتفاق علي صيغة متفق عليها للتنافس السياسي , أي علي قواعد اللعبة الديمقراطية ( الإجراءات والقيم ) وليس علي نتائجها ( السياسات ). فالاختلافات حول السياسات والأيديولوجيات تخلق استقطابا حادا يجعل من الصعوبة إتفاق قوي المعارضة , وتظهر الحكومة وكأنها الأكثر اعتدالا , ومن ثم يعرقل الانتقال . وقد تطلب هذا الأمر العمل علي جعل الديمقراطية مصلحة لفئات واسعة في المجتمع , والانفتاح علي العناصر الإصلاحية داخل النظام , وعدم تهديد مؤسسة الجيش , والتأكيد علي حماية مصالحها في المستقبل .

وإذا ما أنجزت المعارضة الديمقراطية المهمتين الأولي والثانية فلن تستطيع القوي الدولية المناصرة للنظام القديم ( في حالة وجود مثل هذا الدعم ) الوقوف ضدها والاستمرار في دعم النظام ( المهمة الثالثة ). إن تغيير مواقف القوي الدولية سيكون نتيجة منطقية لوجود بديل ديمقراطي ذي خطاب سياسي معتدل , ومتغاض عن التذكير بتحالف النظام القديم مع الداعم الخارجي .

وتمثل المكسيك حالة تطبيقية لعملية انتقال ديمقراطي ناجح بعامل دخول لاعبين جدد ساحة السياسة والتنافس علي مناصب سياسية علي المستويين المحلي والفيدرالي , وبعامل إصرار أحزاب المعارضة علي العمل الدءوب , والضغط لإدخال إصلاحات تدريجية غيرت من أسس النظام السياسي القائم . وقد اتسم الإصلاح المكسيكي باستراتيجية ' خطوتان للأمام وخطوة للخلف ', ولهذا امتدت فترة الانتقال لأكثر من عقدين , أدت في النهاية إلي إضعاف أسس النظام التسلطي , وخسارة الحزب الحاكم منصب الرئاسة عام 2000, وظهور نظام جديد بأحزاب أساسية ثلاثة بدلا من نظام الحزب المسيطر .

لا يزال أمام الحكام العرب الذين لم تشهد بلدانهم انتفاضات شعبية فرصة الإصلاح الحقيقي من أعلي , وأمامهم أيضا فرصة التوافق مع المعارضة . ولعل الإجراءات الإصلاحية التي أعلنها ملك المغرب في السابع عشر من يونيو 2011 تصب في إتجاه إدراك الحكم أهمية الإصلاح الحقيقي والتحول إلي مملكة دستورية ديمقراطية , لكن الرهان الحقيقي هو في التنفيذ بالطبع . إن استخفاف الحكام بسنن الكون وحتمية التغيير لن يؤدي إلا إلي الطريق الثالث , وهو انهيار أنظمتهم تحت أقدام المتظاهرين علي النمطين التونسي والمصري . فالتغيير مسألة وقت في معظم الدول العربية . وحينما تظهر حكومات ديمقراطية وطنية منتخبة في تونس ومصر وقريبا باليمن وسوريا وليبيا , فلن تستطيع بقية الأنظمة العربية الأخري الاستمرار .


3 ـ انهيار نظم حكم الفرد أو القلة وإنشاء نظم حكم ديمقراطية :

في الحالات الأخري التي لم تشهد لا انشقاق الفئة الحاكمة , ولا ظهور جناح إصلاحي لديه الرغبة والقدرة علي قيادة الانتقال نحو الديمقراطية أو التفاوض مع قوي المعارضة , ولا ظهور معارضة ديمقراطية حقيقية كان مصير النظام هو إما الاستمرار , كما الحال في معظم دولنا العربية حتي مطلع العام 2011, وإما التفكك والانهيار أو الثورة ضده , كما حدث في عدة دول أفريقية , وكما حدث في تونس ومصر مؤخرا وربما يحدث قريبا اليمن وليبيا وسوريا ).

وفي حالات الانهيار , يمر التغيير بمرحلتين أساسيتين , أولاهما مرحلة انهيار الأنظمة الحاكمة نتيجة عوامل مختلفة كالفشل في الداخل ( رومانيا ), أو الهزيمة العسكرية أمام متمردين في الداخل أو عدو خارجي ( البرتغال , واليونان , والأرجنتين ), وثانيهما مرحلة إنشاء نظام حكم ديمقراطي .

وعادة ما ينهار النظام عندما يتغير ميزان القوة بين النظام والمعارضة بشكل حاد , أي عندما تتصاعد قوة المعارضة وتتضاؤل قوة الحكومة إلي الحد الذي ينهار فيه النظام بأكمله وتصل المعارضة إلي السلطة . وهذا ما حدث في الأرجنتين , فبعد هزيمة فوكلاند جاءت حكومة عسكرية انتقالية في يوليو 1982 بقيادة رينالدو بينون , ثم تصاعدت الاحتجاجات والإضرابات الشعبية , فقام بينون بتأجيل الانتخابات , ومع تصاعد الضغوط , انسحب بينون وجاءت حكومة أخري منتخبة بقيادة الفونسين في أكتوبر .1983

ثانياـ دروس من تجارب الانتقال :

1 ــ التوافق حول الديمقراطية :

في جميع مداخل الانتقال لابد من توافق القوي السياسية التي تنشد التغيير السلمي علي النظام الديمقراطي بأسسه ومبادئه وآلياته وضوابطه وضماناته المتعارف عليها كنظام بديل لنظم حكم الفرد أو القلة . وهذا الإتفاق يتطلب , بدوره , إيمان هذه القوي ذاتها بالديمقراطية قولا وفعلا , واعتدال خطابها السياسي تجاه الآخر , وانفتاحها علي كافة القوي , ثم التكتل من أجل توسيع قاعدة من يرون في الديمقراطية مصلحة لهم , أي المؤمنين بالديمقراطية كنظام سياسي , وكآلية لحل الصراعات السياسية بطرق سلمية , ثم الضغط علي السلطة الحاكمة بهدف خلخلة تماسكها ودفعها إلي التنازل والقبول بالديمقراطية .

هذا ما حدث في إسبانيا عندما آمن خوان كارلوس , خليفة الدكتاتور فرانكو , بالملكية الدستورية وعندما أعلت الأحزاب الاشتراكية والشيوعية واليمينية من هدف الانتقال إلي الديمقراطية مؤجلة تنافسها السياسي والأيديولوجي . وهذا ما حدث أيضا عندما اختار فريق من المؤسسة العسكرية البرازيلية العودة إلي الحكم المدني الديمقراطي كبديل لحكم العسكر . وفي جنوب أفريقيا , كان إيمان القوي المناضلة , وعلي رأسها حزب المؤتمر الأفريقي , بأسس الديمقراطية والمواطنة والتعايش مع البيض , عاملا أساسيا في هدم نظام الفصل العنصري .

وفي المقابل , كان غياب هذا النوع من التوافق واحدا من عقبات الانتقال إلي الديمقراطية في الدول العربية التي شهدت انفتاحا سياسيا . ولا شك أن مرحلة مابعد الثورات وانهيار الحكومات العربية تحتاج هي الأخري إلي هذا التوافق علي القواسم المشتركة الديمقراطية , فبدون مثل هذا التوافق تتصاعد مخاوف إلتفاف بعض القوي علي الثورة , وعودة الحكم المطلق بواجهات جديدة .

2 ــ دور المؤسسة العسكرية :

كان كف المؤسسات العسكرية والأمنية وشبه العسكرية - أو جناح منها _ عن دعم النظام من أهم العوامل التي تؤثر في تماسك الفئات الحاكمة , كما أنهي الجيش سطوة الأجهزة الأمنية في البرازيل والبرتغال ورومانيا , أما النظم التي تحكم سيطرتها علي المؤسسة العسكرية وتعتمد علي المؤسسات الأمنية , والدعم الخارجي فتكون قادرة علي الحفاظ علي تماسكها ولا يتصور حكامها إمكانية تخليهم عن كراسي الحكم في يوم من الأيام .

ولا شك أن مواقف المؤسستين العسكرية في تونس ومصر كان عاملا حاسما لنجاح الثورتين فيهما . غير أن المرحلة الانتقالية تحتاج مشاركة المدنيين في الحكم وآلية رسمية للتشاور مع كافة القوي في صنع القرارات المصيرية دون إقصاء أو انفراد . وفي المقابل , يلعب الجيشان اليمني والسوري دورا بييا في استمرار النظامين , وأدي تعنت النظام وتعدد الكتائب المسلحة في ليبيا إلي كارثتين : حرب أهلية , وتدخل خارجي .

ومن جهة أخري , تحتاج الثورات العربية إلي التصدي لأي محاولات لتسييس الجيش , بل ويجب علي الجيش نفسه التصدي لهذا التسييس . فالجيوش في عالمنا إما أن تكون جيوشا وطنية , محترفة , وغير مسيسة كما الحال في الدول الديمقراطية , وإما أن تكون حاكمة بشكل مباشر أو غير مباشر فتقمع الحريات أو تدخل البلاد في حروب أهلية وإقليمية .

3 ــ التعبئة الشعبية والتظاهرات :

تلعب عملية التعبئة الشعبية ضد النظام , والتي تشترك فيها فئات كثيرة كالطلاب والأساتذة والمثقفين والعمال , دورا حاسما في الانتقال . وأثبتت تجارب التحول أنه كلما كانت هذه التعبئة منظمة ومستمرة وغير عنيفة كلما ارتفعت احتمالات نجاح المعارضة الديمقراطية واستكمال الانتقال . وفي جل حالات الانتقال , كان اللجوء إلي الإضرابات والاحتجاجات الشعبية السلمية المطالبة بالتغيير عاملا مؤثرا لنجاح الضغوط علي الحكام ودفعهم للخروج أو التفاوض . ففي جنوب أفريقيا أدت التعبئة لظهور سلوك جماعي مناهض للعنصرية , من رفع تكلفة بقاء النظام العنصري , إلي التفاوض حول تصفيته والتحول نحو الديمقراطية .

وقد شهدت ثورتا تونس ومصر تعبئة شعبية شاركت فيها اتحادات الشغل بتونس والحركات الاحتجاجية والشبابية بمصر , نجحت في النهاية في تحريك الملايين وانتهت بثورتين شعبيتين .

4 ــ العامل الخارجي :

أشارت تجارب التحول إلي أن اتفاق القوي المعارضة علي القواسم المشتركة وتكتلها وقيادتها لعمليات التعبئة ضد النظام كفيل بدفع القوي الدولية الداعمة للنظام إلي التخلي عن هذا الدعم ومساندة المطالب الديمقراطية , أو علي الأقل عدم الممانعة في الانتقال . فكما أشرنا من قبل , كان تغيير مواقف القوي الدولية نتيجة منطقية لوجود بديل ديمقراطي ذي خطاب سياسي معتدل كما حدث في الفلبين وكوريا الجنوبية .

وأشارت حالات الانتقال إلي إن حصول المعارضة الديمقراطية علي إشارات دعم خارجية يساعد علي نجاح حالات الانتقال كما حدث من دعم أوروبا الغربية لأوروبا الشرقية , ودعم الكنيسة الكاثوليكية الانتقال بالفلبين وكوريا وبولندا وأمريكا اللاتينية .

وفي الحالة الثورية العربية الراهنة , أجبرت الثورتان المصرية والتونسية الولايات المتحدة والغرب علي الرضوخ للإرادة الشعبية , ولهذا شهدنا انفتاحا غربيا علي القادة الجدد في تونس والقاهرة . ويتبقي أن تقود قوي الثورة في الدولتين المرحلة الانتقالية بحكمة ومهارة علي وضع يضع الدولتين علي الطريق المؤدي إلي الديمقراطية , وتجنب الانقسامات السياسية والأيديولوجية التي _ لا قدر الله _ قد تفتح المجال لتدخل خارجي مباشر أو غير مباشر . وفي ليبيا , يجب علي كافة القوي الوطنية ووجهاء القبائل الوقوف ضد نزول أي قوات غربية علي الأرض , والتوافق علي نظام ديمقراطي بديل يستبعد كلية أي دور للغرب .

5 ــ نوعية قادة التحول :

نوعية القيادة ومهارات الإصلاحيين أحد عوامل نجاح الانتقال , فكما أشرنا , كان لتوافق الآباء المؤسسين علي الديمقراطية , وعلي إنشاء منظمة عابرة للأعراق والأديان في الهند وماليزيا بالغ الأثر في الانتقال مباشرة من الحكم الاستعماري إلي الديمقراطية . كما ساهمت المهارات السياسية لرئيس وزراء إسبانيا سواريز , وخطابه المعتدل تجاه كافة الأطراف في نجاح الانتقال . وساعدت المهارات التفاوضية لزعيم حركة تضامن البولندية فاونسا , واعتدال وحكمة مانديلا , ودي كليرك بجنوب أفريقيا , وإصرار زعيمة المعارضة أكينو , واعتدال قادة الجيش بالفلبين والبرازيل في استكمال الانتقال هناك .

هذه النوعية من القادة لم توجد بعد في معظم دولنا العربية , فقد خاب ظن الكثيرين من جيل الحكام الشباب . كما ساهم غياب هذا النوع من القادة في دفع الأمور إلي التغيير من أسفل واندلاع الثورات . ولا شك أن مرحلة ما بعد إسقاط النظام القديم تتطلب ظهور قادة حقيقيين للثورات , يقودون بلادهم بمهارة وحكمة نحو الديمقراطية , ويتجنبون الاستقطابات السياسية والايديولوجية في الداخل , ومحاولات التأثير من الخارج .

6 ــ أولويات المرحلة الانتقالية في أعقاب الثورات :

لكل ثورة أولوياتها التي يجب علي الثوار الاهتمام بها وتأجيل بقية القضايا إلي فترات لاحقة . وفي الحالة المصرية يمكن تصور أربع أولويات .

الأولي هي أولوية السياسي علي الاجتماعي والاقتصادي . فالجهود لا بد أن تتجه للتوافق علي الدستور الجديد وبناء النظام الديمقراطي حتي يمكن معالجة تلك المطالب بشكل صحيح . فبدون هذا الأمر سيستمر تخوف المصريين من استمرار الحالة الثورية في ضوء انكسار حالة الخوف لدي الناس وتصور البعض أنه بالإمكان تحقيق أي هدف بالنزول إلي الشارع . بالطبع معظم المطالب الاجتماعية والاقتصادية مطالب مشروعة وتعبر عن مظالم حقيقية ارتكبها النظام السابق , إلا أن توقيت إثارتها ليس مناسبا الآن .

والأولوية الثانية هي أولوية المشاركة والتوافق كبديل للانفراد والإقصاء . فحالات الانتقال الديمقراطي , وخاصة الثورية منها , تتطلب أن يشترك الجميع في تحديد معالم الطريق وفي اتخاذ القرارات المصيرية . والمطلوب الآن هو تأجيل حسم القضايا الخلافية إلي ما بعد إقامة دولة المؤسسات وحكم القانون , والإكتفاء الآن بالتوافق علي أمرين :

الأول : أن أي نظام جديد لن يخترق ثوابت الدين الإسلامي ومبادئ الشريعة الإسلامية وقيم المجتمع وعناصر هويته وثقافته الرئيسة . ويقتضي هذا الإبقاء علي المادة الثانية من الدستور مع إضافة مادة تضمن للأقباط الاحتكام إلي شرائعهم وعدم إخضاعهم للشريعة الإسلامية بغير رضاهم .

الثاني : التوافق حول الضمانات الدستورية والقانونية التي تمنع العودة إلي الماضي الاستبدادي , وتمنع الانقلاب علي الأسس الجوهرية للديمقراطية .

والأولوية الثالثة , تتصل بالإعلام والصحافة , فالمراحل الانتقالية تحتاج أن يرتقي الكتاب والإعلاميون إلي مستوي الحدث والتخلي عن المصالح الشخصية في سبيل إعلاء المصلحة الجامعة . لا تحتاج هذه المراحل إلي مناظرات لا تظهر إلا المختلف بين التيارات السياسية وإنما علي العكس تحتاج إلي توسيع مساحات الاتفاق بين التيارات السياسية .

والأولوية الرابعة , هي أولوية الداخل علي الخارج . فبناء مصر القوية داخليا شرط أساسي لتطوير سياسة خارجية قوية ومؤثرة , بمعني تأجيل القضايا الكبري في السياسة الخارجية إلي ما بعد ظهور حكومة منتخبة ديمقراطيا , وبناء مؤسسات الدولة المنشودة . فما تريده مصر هو سياسة خارجية تعبر عن مصالح وطنية حقيقية , وتأتي من خلال مؤسسات منتخبة , وليس أشخاص , ويقوم علي تنفيذها فرق عمل دبلوماسية قادرة علي إظهار وجه وقدرات مصر الحقيقية في محيطها الإقليمي والدولي .

لا تغيير بلا ثمن , والثمن هو العمل والنضال بشكل منظم ودءوب من أجل تغيير ميزان القوة داخل النظام , وبين النظام والقوي السياسية خارجه , وبين النظام ومن يدعمه من الخارج .
أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية , ومنسق الجماعة العربية للديمقراطية