فتح القسطنطينية بين الحلم والحقيقة



القسطنطينية.. أصر المسلمون على فتحها.. وقد كان


بدأ التفكير في فتح القسطنطينية يراود خيال خلفاء المسلمين منذ بداية العصر الأموي؛ فعندما ولي الخليفة "معاوية بن أبي سفيان" خلافة المسلمين كان في مقدمة الأهداف التي وضعها نصب عينيه فتح القسطنطينية، تلك المدينة الجميلة الساحرة، أشهر مدن الدولة البيزنطية وعاصمتها المتألقة.

وكان لموقع القسطنطينية المتميز أكبر الأثر في اتجاه أنظار المسلمين إلى فتحها، وانتزاعها من الإمبراطورية البيزنطية التي كانت مصدر قلق دائم للدولة الإسلامية، وضم تلك اللؤلؤة العزيزة إلى عقد الإمبراطورية الإسلامية الواعدة.

كانت مدينة القسطنطينية محط أنظار المسلمين بجمالها وبهائها، كأنها درة قد احتضنها خليج البسفور من الشرق والشمال، وامتدت من جهة الغرب لتتصل بالبر، وتطل أبراجها وحصونها في شموخ وكأنها تتحدى الطامعين فيها، وقد برزت أسوارها العالية من حولها في كل اتجاه فتتحطم عندها أحلام الغزاة وتنهار آمال الفاتحين.

الحملة الأولى إلى القسطنطينية

وبرغم تلك الأسوار المنيعة والأبراج الحصينة التي شيدها أباطرة البيزنطيين حول المدينة، فإن ذلك لم يفتّ في عضد معاوية، ولم يثنه عن السعي إلى فتح القسطنطينية.. وبدأ معاوية يستعد لتحقيق حلمه الكبير.

استطاع معاوية في مدة وجيزة أن يجهز لأول حملة بحرية إلى القسطنطينية (سنة 49 هـ = 669م) حشد لها جيشا ضخما، وشارك فيها عدد كبير من الصحابة منهم "عبد الله بن عمر" و"عبد الله بن عباس" و"أبو أيوب الأنصاري"- رضي الله عنهم- وجعل عليها "سفيان بن عوف"، وأخرج معه ابنه "يزيد بن معاوية".

ولكن تلك الحملة لم يكتب لها النجاح؛ فقد حال سوء الأحوال الجوية وبرودة الجو الذي لم يعتدْه العرب دون استمرار المسلمين في الحصار الذي فرضوه على المدينة، بالإضافة إلى قوة تحصين المدينة التي حالت دون فتحها. وعادت الحملة مرة أخرى بعد أن استشهد عدد من المسلمين، منهم الصحابي الجليل "أبو أيوب الأنصاري".

ولكن معاوية لم ييئس، ولم يخبُ حماسه وإصراره على مواجهة هذا التحدي الجديد؛ فراح يعد لحملة جديدة، ومهد لذلك بالاستيلاء على عدد من الجزر البيزنطية في البحر المتوسط، مثل: جزيرة "كريت" وجزيرة "أرواد" في سنة (54 هـ = 674م).

وكان معاوية يهدف من وراء ذلك إلى أن تكون هذه الجزر محطات للأسطول الإسلامي عند خروجه لغزو القسطنطينية.

سر النار الإغريقية

فرض المسلمون الحصار على المدينة المنيعة لدفعها إلى الاستسلام، واستمر الحصار من عام (54 هـ = 674م) إلى عام (60 هـ = 680م)، وتحمل المسلمون طوال تلك السنوات السبع كثيرا من الصعاب، وواجهوا العديد من المشاق والأخطار حتى فاجأهم البيزنطيون بسلاح جديد لم يألفه المسلمون من قبل وهو "النار الإغريقية"، وهي عبارة عن مزيج كيميائي من الكبريت والنفط والقار، فكان البيزنطيون يشعلونه ويقذفون به سفن الأسطول الإسلامي فتحترق بالنار وهي في الماء؛ مما اضطر المسلمين في النهاية إلى رفع الحصار عن المدينة والعودة مرة أخرى إلى دمشق بعد أن احترق عدد كبير من السفن واستشهد عدد كبير من الجنود.

حملة سليمان بن عبد الملك

أحجم المسلمون فترة من الزمان عن محاولة فتح القسطنطينية لمناعتها وتحصنها، حتى جاء الخليفة الأموي "سليمان بن عبد الملك" فبدأ يجهز جيشا ضخما بلغ نحو مائة ألف جندي، وزوده بنحو ألف وثمانمائة سفينة حربية، وجعل على رأسه أخاه "مسلمة بن عبد الملك".

وانطلق مسلمة نحو القسطنطينية عام (98 هـ = 717م) فحاصرها مدة طويلة، وبرغم تلك الاستعدادات الكبيرة والإمكانات الضخمة الهائلة التي توافرت للجيش، فإن تلك المدينة استعصت عليه، وعجز عن فتحها، فبعث مسلمة أحد رجاله، ويدعى سليمان على رأس جيش يستطلع الطريق عبر آسيا الصغرى.

وسار سليمان حتى بلغ عمورية فحاصرها مدة، وعلم أن "ليون" حاكم هذه المدينة يناهض الإمبراطور البيزنطي "تاود أسيوس" فأراد أن يخدعه ويستميله معه، ويغريه بعرش الإمبراطورية الرومانية، ولكن ليون تظاهر بمساعدته وأضمر في نفسه شيئا آخر، فدخل في مفاوضات مع المسلمين وطلب منهم رفع الحصار عن عمورية، ثم صحب جيش المسلمين قاصدا القسطنطينية، وأصبح ليون موضع ثقة المسلمين، فسمحوا له بأن يسبقهم إلى القسطنطينية.

وسرعان ما كشف "ليون" عن حقيقة نواياه عندما احتل العاصمة البيزنطية واستطاع الوصول إلى العرش الإمبراطوري مستغلا وصول الحملة الإسلامية إلى القسطنطينية، فأسرع بتحصين المدينة وتدعيم أسوارها وتقويتها لمواجهة الحصار الإسلامي المرتقب.

بدأ الحصار البحري لمدينة القسطنطينية في (19 من المحرم 99هـ = أول سبتمبر 717م) وعندما وصل إليها مسلمة بجيشه ضرب عليها حصارا شديدا قاسيا، واستمر حتى الشتاء، وتحمل المسلمون البرد القارس؛ حيث عانوا كثيرا؛ وجاء أسطول من مصر وآخر من شمال إفريقيا، كما وصلت نجدات برية أخرى.

وأخذ المسلمون يهاجمون المدينة مستخدمين النفط، واستعانوا بسلاح جديد أشبه بالمدفع، وأظهر المقاتلون شجاعة نادرة وفدائية فريدة.

وفي تلك الفترة التي اشتد فيها حصار المسلمين لمدينة القسطنطينية توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك، وتولى بعده الخليفة "عمر بن عبد العزيز"، واستقر رأى الخليفة الجديد على سحب القوات الإسلامية المحاصِرة للقسطنطينية للإفادة منها في تأمين الدولة الإسلامية وتنظيمها قبل الاستمرار في الفتح والتوسع. وأرسل الخليفة في (12 من المحرم 100 هـ = 15 من أغسطس 718م) يطلب من مسلمة العودة بجيوشه وأساطيله إلى الشام بعد حصار دام اثني عشر شهرًا كاملة، بعد أن أدت دورها في إعزاز دولة الإسلام، وحمل البيزنطيين على التخلي عن أحلامهم وأطماعهم السابقة في استعادة أراضيهم التي انضوت تحت لواء الإمبراطورية الإسلامية الجديدة.

تحقق الحلم

وبرغم كل تلك المحاولات لفتح القسطنطينية، والتي لم يكتب لها النجاح؛ فقد ظل الاستيلاء على هذه المدينة حلما يداعب خيال المسلمين، وأملا يراود نفوسهم، وأمنية تجيش في صدورهم حتى استطاع السلطان العثماني "محمد الفاتح" أن يحقق ذلك الحلم بعد عدة قرون من الزمان، ويفتح القسطنطينية في سنة (857هـ = 1453م).


دلالاتُ حديث " فتح قسطنطينية "


عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق ـ موضعان بقرب حلب ـ فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافّوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبَوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم، ويُقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث، لا يُفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح ـ أي المسيح الدجال ـ قد خلفكم في أهلكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام، خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم ?، فأمّهم، فإذا رآهم عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده ـ أي بيد عيسى بن مريم ـ فيريهم دمه في حربته " مسلم.



أفاد الحديث أموراً عدة، منها :

1- أن هذا الفتح للقسطنطينية المشار إليه في الحديث .. هو غير الفتح الأول الذي تم على يد السلطان الفاتح .. فهو فتح ثانٍ؛ بدليل العلامات والأحداث التي تحصل إثر فتح القسطنطينية والتي لم تحصل في الفتح الأول الذي تم على يد محمد الفاتح .

2- وهذا من لوازمه أن القسطنطينية سيعود حكمها ووصفها إلى حكم ووصف دار الحرب .. بعد أن فُتحت على يد السلطان محمد الفاتح .. وقد وقع ذلك بعد الانقلاب العلماني الذي قاده الطاغية " أتاتورك " .. واستطاع من خلاله أن يحول الدولة التركية من دولة إسلامية إلى دولة علمانية كافرة تحارب الله ورسوله.. ولا تزال هي كذلك إلى اليوم!

3- وصول الروم إلى دابق ـ موضع قرب حلب ـ يكون عن طريق تركيا .. لأنه لا يوجد طريق يمكن للروم أن يسلكوه إلى ذلك الموقع إلا عن طريق تركيا لقربها من حلب .. وهذا يدل على أن تركيا يومئذٍ تكون في مصاف الروم .. وتكون مع أعداء الأمة ضد الأمة .. كما هي عليه اليوم!

4- أن الجزيرة العربية .. وبخاصة منها المدينة المنورة .. لن تكون خاضعة أو تابعة لأي سلطة أو سياسة خارجية معادية .. وأن أمراءها يومئذٍ تكون قراراتهم الهامة والمصيرية بأيديهم .. لا تُملى عليهم من غيرهم .. ولا توجد قوة في الأرض يهابونها أو تستطيع أن تفرض عليهم مالا يريدون .. وهذا ظاهر في رفضهم لطلبات الروم ـ الممثلة في أمريكا وأوربا اليوم ـ بأن يخلوا بينهم وبين المسلمين في الشام ..!
قالوا: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا ..!

5- أن أمريكا ومعها أوربا سيؤول أمرها ـ ولو بعد حينٍ بإذن الله ـ إلى الضعف والهوان إلى حدٍّ لا تستطيع معه أن تمنع مسلمي المدينة من نجدة إخوانهم في الشام .. كما أنها لا تستطيع أن تقف أمام ضربات مجاهدي المدينة والشام .. مما يترتب عليه فتح القسطنطينية من جديد، وسقوطها بأيدي المسلمين!

6- وهذا يعني أن هذا الاحتلال والتواجد الضخم للقوات الأمريكية والغربية في الجزيرة العربية .. سيزول ولو بعد حين .. وما ذلك ببعيدٍ إن شاء الله.

7- أن المسلمين ـ وبخاصة منهم مسلمي الجزيرة والشام ـ ستعود إليهم وحدتهم على أساس رابطة العقيدة والدين .. وأن هذه الفرقة السائدة .. والحدود المصطنعة اليوم لا بد أنها ستزول .. يظهر ذلك في تلاحم مسلمي أهل المدينة مع إخوانهم في الشام .. وقتالهم في صف واحد ضد أهل الكفر والشرك من الروم ..!

8- قوله صلى الله عليه وسلم " قد علقوا سيوفهم بالزيتون " يُفيد أن القتال يومئذٍ سيكون بالسلاح الأبيض .. وأن هذه الأسلحة النووية الفتاكة ستزول بعد أن تُزيل معها صانعيها من الناس .. إلا إذا فُسرت السيوف الواردة في الحديث على أنها كناية على مطلق السلاح .. وهذا بعيد والله تعالى أعلم.

9- أن الشام ستكون مهبط عيسى عليه السلام .. وأنها المنطلق للفتح والتحرير ومواجهة الملاحم الكبرى مع أمم الكفر .. وهذا يعني أن الشام سيعود إليها مجدها ودورها الصحيح الريادي في نصرة هذا الدين .. وأن هذا النظام الطائفي الحاقد الحاكم في الشام اليوم .. ما هو إلا سحابة سوداء تظلل سماء الشام .. لا بد أنها ستنقشع وتزول.

هذه بعض البشارات العظيمة التي يزفها لنا هذا الحديث النبوي العظيم .. التي يحق لكل مسلم صادق الإيمان أن يفرح لها ويُسر.