بسم الله الرحمن الرحيم






مراجعة حكم التحكيم فى الشريعة الاسلامية

لعله من المستحسن عند عرضنا لمراجعه حكم التحكيم فى الشريعة الاسلامية أن تعرض أولا لأقوال المذاهب السنية الأربعة ، ثم نعرض بعد ذلك لموقف أول تقنبن إسلامي لهذه المسألة و هو مجلة الأحكام العدلية(40).


أولا :- مراجعة حكم التحكيم فى المذاهب الفقهية .


أ – المذهب المالكى :

يرى المالكية أن حكم التحكيم إذا ما صدر أصبح ملزما لطرفيه . فإذا ما عرض أمر مراجعته أمام القاضى فلا يجوز له نقضه بأية صورة من الصور ، حتى و لو كان مخالفا لإجتهاده ، و لا يمكن نقض حكم التحكيم إلا بصورتين :
( 1 ) إذا كان مخالفا للقرآن أو السنة أو الاجماع ،( 2 ) إذا كان فى الحكم جور بين(41).


ب – المذهب الشافعى :

للشافعية فى هذه المسألة قولان :-
أولهما :-

و هو قول المزنى و هو أن حكم التحكيم بعد صدوره لا يكون ملزما إلا بشرط تراضى الخصمين ، لأنه لما وقف على خيارهما فى الإبتداء وجب أيضا أن يقف على خيارهما فى الإنتهاء(42).
ثانيهما :

- و هو الصحيح و هو أن حكم التحكيم إذا ما صدر فلا يجوز للقاضى أن ينقضه إلا بما ينقض به الحكم القضائى ، و هو ما يعنى أن حكم التحكيم و فقا لهذا الرأى يرتفع لمصاف الأحكام القضائية (43)

حـ - المذهب الحنبلى :

لا يختلف رأى الحنابلة عن رأى الشافعية ، حيث يرى جمهور الحنابلة(44) أن حكم التحكيم إذا ما صدر فإنه ملزم للقاضى ، و لا يجوز له نقضه إلا بما ينقض به الحكم القضائى ، فيلتزم القاضى الذى يرفع إليه كتاب المحكم بإنقاذه و ذلك سواء كان موافقا له فى إجتهاده أم لا .

د – المذهب الحنفى :

يذهب الأحناف إلى(45) أن القاضى المعين من قبل الحاكم له ولاية على حكم التحكيم فإذا ما رفع إليه حكم ووجده مخالفا لمذهبه نقضه و لو كان هذا من المسائل المختلف عليها بين الفقهاء ، و إن لم يجده كذلك أمضاه.

ثانيا :- مراجعه حكم التحكيم فى مجلة الأحكام العدلية :

رغم أن مجلة الأحكام العدلية مأخوذة من المذهب الحنفى إلا أننا حرصنا أن نعرض لموقفها فى فقرة مستقلة للأسباب التالية :
1- تمثل أحكام المجلة قيمة نظرية كبرى بحسبانها أول تقنين لأحكام الشريعة الإسلامية ، و هو تقنين شامل لغالبية فروع القانون الوضعى . فضلا عن أنها وضعت تنظيما تفصيليا للتحكيم(46).
2- تمثل أحكام المجلة قيمة عملية أيضا باعتبارها القانون الذى طبق على عدد كبير من البلاد الإسلامية بل و ما زالت مطبقة فى بعض البلدان ، فضلا عن أن تأثيرها مازال موجودا على بعض التشريعات العربية خاصة فى الكويت و الأردن و الإمارات .
3- أن النص المتعلق بمراجعة حكم التحكيم فى مجال لا يدل فى ظاهرة على اقترابه من المذهب الحنفى ، بل هو يقترب أكثر من المذاهب الأخرى صحيح أن شروح المجلة حاولت تفسير النص على نحو يخرج به عن الفقه الحنفى ، لكنها كلها تفسيرات تجاوزت النص المقرر فى المجلة على نحو ما سنرى بعد قليل .

هذا عن الأسباب التى دفعتنا لإفراد فقرة مستقلة عن مراجعة حكم التحكيم فى المجلة ، أما عن النص الذى يقرر المراجعة فهو نص المادة 1849 و الذى يقرر أنه " إذا عرض حكم المحكم على القاضى المنصوب من قبل السلطان فإذا كان موافقا للأصول صدق و إلا نقض " و فى التعليق على هذا النص يقول العلامة على حيدر ( شارح المجلة ) : " إذا عرض حكم المحكمة على القاضى المنصوب من قبل السلطان أو على محكم ثانى ليدقق الحكم مرة ثانية ، فإذا كان موافقا للأصول صدقه ، لأنه لا فائدة من نقض الحكم الموافق للأصول و الحكم ثانية ، و فائدة تصديق حكم المحكم من قبل القاضى هو أنه لو عرض هذا الحكم على قاض أخر يخالف رأيه و واجتهاده رأى المحكم فليس له نقضه لأنه أمضاه ، و قبول القاضى لحكم المحكم هو بمنزلة الحكم إبتداء من القاضى ، أما إذا لم يصدق القاضى على حكم المحكم ، فيكون من حق المحكم والقاضى الأخر أن ينقض حكم المحكم ، فإذا حكم المحكم حكما غير موافق للأصول ينقضه لقاضى و المحكم الثانى . و عدم موافقة حكم المحكم للأصول يكون من وجهين : الوجه الأول :- أن يكون حكم المحكم خطأ لا يوافق أى مذهب من المذاهب ، و بتعبير أخر أن يكون حكم المحكم غير موافق لمذهب المجتهد الذى يقلده القاضى ، فلا يوافق رأى أى من المجتهدين و العلماء .و بما أن الحكم الذى يكون على هذه الصورة ظلم واجب رفضه ، فيرفع هذا الحكم و ينقضه و يحكم القاضى على وجه الحق . الوجه الثانى :- أن يكون حكم المحكم موافقا لمذهب أحد المجتهدين إلا أنه يكون غير موافق لمذهب المجتهد الذى يقلده القاضى الذى عرض عليه حكم المحكم ، و فى هذه الحالة ينقض القاضى ذلك لأن و لاية المحكم مقصورة على الطرفين المتخاصمين و حكم المحكم فى ذلك لا يرفع خلاف المسائل الخلافية أى أن حكم المحكم معتبر فى حق الطرفين فقط ، والمحكم فى حق سائر الناس هو كأحد الناس وبما أن المحكم لم يحكم من طرف القاضى فلا يكون ملزما لتنفيذه بعكس القاضى ، فحيث له و لاية عامة فحكمه يرفع الاختلاف و ينفذ فى حق عامة الناس " (47)



مدي إتفاق قانون التحكيم المصري مع الشريعة الإسلامية بشأن مراجعة حكم التحكيم


لعله من المفيد بعد دراستنا لمراجعة حكم التحكيم في الشريعة الإسلامية ولمراجعة حكم التحكيم في القانون المصري أن نستعرض خلاصة موجزة حول المقارنة بينهما لبيان مدي إتفاق القانون المصري مع الشريعة الغراء لا سيما في ضوء النص الدستوري الذي يقضي بإعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع
وسوف نسوق هذه الخلاصة من خلال الملاحظات التالية :

أولا ) رأينا أن غالبية الفقهاء ( المالكية والشافعية والحنابلة ) قد تقاربت آراؤهم علي إختلاف في بعض التفاصيل الصغيرة لكن يمكن القول بأن حكم التحكيم لديهم كحكم القاضي إذا ماصدر لا يمكن نقضه إلا بما ينقض به حكم القاضي سواء وافق ذلك مذهبهم أم لا، أما الأحناف فرأوا أن حكم المحكم غير ملزم للقاضي الحنفي إلا في حدود ماوافق إجتهاده أما إذا خالف المحكم الإجتهاد الحنفي نقض الحكم، وفيما عدا ذلك لم يفصل الفقهاء النظام الشرعي لمراجعة حكم التحكيم ولم يضعوا أسبابا محددة لإلغائه ولا قرروا مدة معينة للمراجعة ، وليس ذلك قصورا في الفقه الإسلامي بقدر ماكان تعبيرا عن واقعهم الذي لم يألف التعقيد في الإجراءات ، فضلاً عن أن غلق باب الإجتهاد في فترة من الفترات قد أدي إلي إعاقة التطور الطبيعي للفقه الإسلامي نحو بناء قانون إجرائي متكامل بل ونحو نظرية متكاملة للقانون الإسلامي .

ثانياً ) رغم أن الفقه الإسلامي لم يعرض لمراجعة حكم التحكيم إلا في سطور قليلة إلا أنه يمكننا بتتبع كتابات هذا الفقه أن نسترشد بقاعدتين هامتين يمكن إعمالهما بشأن هذا الأمر وهما :القاعدة الأولي : ينقض حكم التحكيم إذا ورد فيما لايجوز فيه التحكيم (48) وفي بيان ذلك بقرر الأحناف أنه لا يجوز التحكيم في حدود الله تعالي ولا في القصاص ولا في الدية علي العاقلة ويجوز في غيرها، ويقرر المالكية أن التحكيم يجري في الأموال ومافي معناها ولا يجوز في حدود الله ولا في القصاص ولا في طلاق أو نسب أو عتاق أو ولاء ويقرر الشافعية في أحد الآراء أن التحكيم يختص جوازه بالأموال وعقود المعاوضات ولا يجوز في الحدود والقصاص والنكاح واللعان ، وفي قول آخر يجوز في كل ماتحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم القاضي الذي ولاه الإمام، وأخيراً بقرر الحنابلة أنه لا يجوز التحكيم في النكاح واللعان والحدود والقصاص ويجوز في غيرها ، وفي قول عن الإمام أحمد أنه يجوز التحكيم في جميع المسائل . وعلي ذلك إذا ورد حكم التحكيم في مسألة لا يجوز فيها التحكيم – علي الخلاف السابق – كان حكم التحكيم واجبا نقضه .القاعدة الثانية : المتتبع لكتابات الفقهاء يجد أن ماينقض حكم القاضي ينقض حكم التحكيم ولعل ذلك هو الدافع الرئيسي لعدم إسهابهم في معالجة مراجعة حكم التحكيم إعتماداً علي قياسها علي حكم القاضي ولعله من المفيد أن نورد القواعد التي وضعها الفقهاء(49) لنقض الأحكام وهي :

1- ينقض الحكم إذا كان مخالفاً لنص أو إجماع
2- الإجتهاد لا ينقض بمثله
3- السوابق القضائية لا تقيد القاضي ولا تلزمه
4- تنقض أحكام قاضي الجور والسوء إذا كانت جائرة
5- التهمة تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض
6- تدقق أحكام فليل الفقه ومن لا يشاور فيبرم منها الصحيح وينقض منها ماكان خطأ
7- إذا كان الحكم المنقوض صحيحاً فإن الحكم الناقض ينقض ويبرم الحكم المنقوض
رأينا أيضا أن المشرع المصري جعل الوسيلة الوحيدة لمراجعة حكم التحكيم هي الطعن بالبطلان ولأسباب محصورة كما نظم المشرع النظام الإجرائي لدعوي البطلان ولكن هل معني ذلك أن المشرع المصري خالف بذلك أحكام الشريعة الإسلامية لمجرد إختلاف بعض الأمور بشأن مراجعة حكم التحكيم؟ هذا ماتفسره الملاحظة التالية.

ثالثا ) المعروف أن أحكام الشريعة الإسلامية تتضمن نوعين من الأحكام الأولي أحكام قطعية الثبوت والدلالة والثانية أحكام ظنية الدلالة فإذا ماخالف حكم التحكيم الاحكام الاولي كان جديرا بالإلغاء أما إذا خالف الأحكام الأخري لم يكون كذلك طالما لم يخالف مقاصد الشريعة ويكون لولي الأمر تقرير أسباب الإلغاء وفقا لمصلحة الأمة وعلي ذلك لا يشكل موقف المشرع المصري بدعة أو مخالفة لأحكام الشريعة

رابعا ) إذا كنا قد قررنا عدم مخالفة قانون التحكيم المصري للشريعة فإن ذلك مشروط بالتوسع في فكرة النظام العام بحيث تشمل كافة أحكام الشريعة القطعية

والأمر في النهاية يحتاج إلي جهود الفقهاء والباحثين نحو دراسة تفصيلية مستحدثة تتناول أحكام التحكيم في الشريعة الإسلامية وفقاً لمنهج حديث لا يتجاوز ماقاله الفقهاء وفي ذات الوقت لا يتحجر عنده بل يبتكر من الأحكام والقواعد مايصلح لتنظيم التحكيم في الشريعة الإسلامية في ضوؤ ثوابت النظرية العامة للقانون الإسلامي ، بل لا نغالي إذا قلنا أن الفقه الإجرائي الإسلامي يحتاج إلي إعادة البناء .