تاريخ النظام العام و علاقاته بالقانون الدولي الخاص .

المطلب الأول : فكرة النظام العام .


فكرة النظام العام قديمة , عرفت منذ عهد (بارتول) حيث فرق عند كلامه عن اثر القوانين في الخارج , بين الأحوال – القوانين – المستحسنة و الأحوال – القوانين – المستهجنة و لم يجز الاخد بأحكام هذه الأخيرة و فضل عليها القوانين الإقليمية . و قد نمت هذه الفكرة و ترعرعت بفضل مبدأ الجنسيات مع ما ترتب عليه من فتح الباب على مصراعيه لقانون الجنسية و زيادة اهتمام الدولة بالبحث في المبادئ القانونية العامة وعن وسيلة الدفاع عن نفسها ضد هدا القانون عندما يصطدم بتشريعها و يكون مخالفا للنظرية الاجتماعية التي يسند إليها هذا التشريع , فالنظام العام ليس في الحقيقة إلا دفاعا غريزيا يقوم به النظام الاجتماعي ضد تدخل القانون الأجنبي , و قد تعددت حالات هذا الدفاع عندما تعددت حالات انطباق قانون الجنسية , بدليل انه في البلاد التي لم يؤخذ فيها بهذا القانون لحكم الأحوال الشخصية , و خاصة البلاد الانجلوسكسونية التي تترك الحكم فيها لقانون الوطن , لم تتم فكرة النظام العام فيها بنفس الدرجة .
و مهما يكن من أمر , فقد أصبح النظام العام في الوقت الحاضر من أسس القانون الدولي الخاص في مختلف الدول بل ولقد أصبح مهيمنا عليه كله , فطبقته محاكمها كما نصت عليه صراحة تشريعات بعضها كالتشريع الألماني في المادة 30 من المقدمة و التشريع الايطالي في المادة 12 من القانون المدني كما نصت عليه المادة 33 من مشروع القانون المدني العراقي حيث قررت انه ? ?لا يجوز مطلقا تطبيق أحكام قانون أجنبي .. إذا كانت هذه الأحكام مخالفة للنظام العام أو للآداب? و من تم أصبح من الثابت الآن انه لا يمكن إجبار القاضي على تطبيق قانون أجنبي تتنافى أحكامه مع المصلحة العامة و الشعور بالعدالة , حتى و لو قضت بذلك قواعد الإسناد الوطنية .
المطلب الثاني : أساس الأخذ بفكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص


أساس التمسك بالنظام العام أن القانون الأجنبي الذي يراد استبعاده لا يتشابه في أسسه كلها أو بعضها مع القانون الوطني , بل تختلف هذه الأسس اختلافا جوهريا بحيث لو طبقنا هذا التشريع رغم ذلك لما جاء الحكم عادلا في نظر المشرع الوطني و قضائه , و قد عبر عن ذلك فقهاء القانون بقوله
( إن التمسك بالنظام العام يرجع إلى عدم وجود اتحاد قانوني بين بلد القانون الأجنبي الواجب التطبيق و بين البلد الذي يحول فيه النظام دون هذا التطبيق) , فالاتحاد القانوني بين دولتين هو الذي يمكن القاضي في أحداهما من تطبيق قانون الأخرى , إذ هو عبارة عن اتحاد في فكرة مشتركة تقوم عليها النظم القانونية المختلفة التي تكون موضع نظر المحكمة في النزاع المعروض عليها , فكما أن كل شخص من طبقة معينة لا يقبل الاختلاط بأشخاص منتسبون لطبقة لا تتفق مع طبقته , و كما انه لا يمكن أن تدور مناقشة مفهومة إلا بين شخصين يمكنهما التفاهم بلغة واحدة , كذلك لا يمكن للقاضي في بلد معين أن يطبق قوانين أجنبية إلا إذا كانت هذه القوانين تتفق مع بلده في الفكرة القانونية , و بعبارة أخرى ? لا مكان لتدخل قوانين دولة في دولة أخرى يجب أن تكون الدولتان من طبقة واحدة يسودها جو قانوني واحد .
كذلك قد يكون مرد التعارض بين التشريعين اختلاف النظريات التي تقوم عليها قواعدهما في الميدانين الأدبي و الاقتصادي , فثمة تشريع يجيز التبني و الاعتراف بأولاد الزنا أو جعلهم أولادا شرعيين كالتشريع الفرنسي مثلا , و هناك تشريع آخر لا يقبل هذه الأوضاع كالتشريع المغربي مثلا . و الواقع في الأمر أن هذا الاتحاد القانوني كثيرا ما يفتقد بين التشريعات بل أن الاختلاف فيما بينها يكاد يكون حتميا في بعض الأحوال , و يرجع ذلك إلى عدة عوامل منها ما هو فني بحث و منها ما هو اجتماعي و اقتصادي .
فالتنظيم الفني للحقوق قد يختلف في تشريع عنه في تشريع آخر تمام الاختلاف لدرجة انه لا يمكن أن يسري احدهما في بلد الآخر, فرهن الحيازة مثلا منظم في القانون الفرنسي و القوانين المستمدة منه بطريقة فنية مغايرة تماما لتلك المعروفة في النظام الانجلوسكسوني فهو لا ينشا إلا إذا نزعت الحيازة من المدين بحسب القانون الفرنسي , في حين أن هذا النوع غير ضروري في القانون الانجليزي و الأمريكي , فالبناءان إذن متعارضان تمام المعارضة , فلو فرض أن رهنا من هذا النوع انشىء في نيويورك حيث يحتفظ المدين بحيازة العين المرهونة , ثم رفعت دعوى في فرنسا أو أشهر فيها الإفلاس فهل يستطيع الدائن المرتهن الاحتفاظ بحقوقه المتعلقة بهذا الرهن ؟ كلا , فالقضاة الفرنسيون لا يمكنهم تطبيق القانون الأمريكي وهو المختص عادة لان التنظيم الفني لرهن الحيازة بحسب القانون الأمريكي مختلف جدا عن التنظيم الفرنسي و لا يمكن أن يتبع في فرنسا دون أن يحدث اضطرابا و خاصة و أن رفعت قضية أمام القاضي المغربي و كان الاختصاص فيها للقانون الفرنسي طبقا لقاعدة الإسناد المغربية لوجب استبعاد هذا القانون .
المطلب الثالث : نطاق تطبيق النظام العام في القانون الدولي الخاص.


لقد حدثت محاولات لحصر الحالات التي يمكن فيها تطبيق فكرة النظام العام مقدما من قبل بعض الكتاب و من معهم من أنصار شخصية القوانين أن القوانين المتعلقة بالنظام العام تنحصر فيما يلي ?
القوانين السياسية و الإدارية
القوانين المتعلقة بالقانون العام
القوانين الجنائية و قوانين المسؤولية المدنية
قوانين التنفيذ الإجباري و المرافعات المدنية و الإفلاس و ما شابه ذلك
القوانين المتعلقة بأنظمة الأموال المنقولة و الغير المنقولة
القوانين المتعلقة بالثقة العامة
القوانين المالية
و من تأمل قليلا في هذا الإحصاء يتبين ما ينطوي عليه من إفراط و من خلط . فقد أتى واضعوه بأقسام متعددة للقوانين تكاد تجمع كل شيء لدرجة انه يمكن التساؤل ? أما كان الأجدر بواضعيه أن يبينوا لنا القوانين التي لا تتعلق بالنظام العام ؟ لا شك أن ذلك كان أسهل عليهم و أسهل للقارئ و الباحث من هذا التعداد الطويل . و من ناحية أخرى فقد جمعت القائمة السالفة قوانين تنطبق من تلقاء نفسها و بصفاتها الخاصة دون حاجة للاستعانة بفكرة النظام العام، فضلا عن أن بعضها بعيد كل البعد عن مشاكل القانون الدولي الخاص و لا علاقة لها به , فالقوانين المتعلقة بنظام الأموال هي قوانين إقليمية , و قوانين المسؤولية المدنية تنطبق باعتبارها قوانين محلية متى كانت المسؤولية ناشئة عن أفعال , و قوانين التنفيذ و المرافعات تنطبق باعتبارها قانون القاضي , أما القوانين السياسية و الإدارية و القوانين المتعلقة بالقانون العام و القوانين الجنائية و القوانين المالية فلا علاقة لها بالقانون الدولي الخاص .
و عندنا فان كل محاولة تبدل في هذا الاتجاه هي محاولة عقيمة و كل جهد يبدل في هذا الصدد يكون عبثا لا طائل تحته , و قد أثبتت التجربة صحة هذا القول , فعندما انعقد مؤتمر لاهاي لوضع اتفاق دولي بشان المواريث نص على مسالة النظام العام و حاول المندوبون تعداد الحالات المتعلقة به فلم يفلحوا فقرروا أن تقوم كل دولة بتعداد ما تعتبره هي متعلقا بالنظام العام في هذا الصدد في بروتوكول خاص ملحق بالاتفاق و لكن هذه المحاولة لم تنتج أيضا . و لا ريب أن السر في ذلك راجع إلى أساس النظام العام نفسه أي إلى عدم التشابه و التماثل بين قوانين الدول المختلفة و هدا الأساس يتنافى مع تحديد نطاق النظام العام مرة واحدة , إذ مما لاشك فيه أن عدم التشابه المذكور ليس مطلقا و نهائيا بل هو وقتي و نسبي يختلف باختلاف المكان و باختلاف الزمان فما يعتبر متعلقا بالنظام العام في بلد قد لا يعتبر كذلك في بلد آخر و ما يعتبر متعلقا بالنظام العام في هذا البلد في وقت من الأوقات قد لا يعتبر كذلك في وقت آخر .
المطلب الرابع : آثار و طبيعة النظام العام في القانون الدولي الخاص.


بالنسبة للآثار , يترتب على الاخد بفكرة النظام العام ضرورة استبعاد القانون الأجنبي الواجب التطبيق و انطباق القانون الوطني محله . غير أن مدى هذا الانطباق يختلف باختلاف الظروف و الأحوال فإذا كانت قاعدة النظام العام من القواعد الناهية أو المانعة فان آثرها في هذه الحالة قاصر على استبعاد القانون الأجنبي لا أكثر و لا اقل , و من أمثلة ذلك أن يطلب زوجان فرنسيان الطلاق أمام محكمة ايطالية فتستبعد هذه المحكمة القانون الفرنسي الذي يجيز الطلاق و هو قانون جنسيتها الواجب التطبيق و فقا لقاعدة الإسناد الايطالية لان القانون الايطالي يمنع الطلاق . أما إذا كانت قاعدة النظام العام من القواعد الآمرة فان آثرها يكون أوسع لدى فهي تستبعد القانون الأجنبي الواجب التطبيق و هذا اثر سلبي و لكنها تذهب إلى ابعد من ذلك حيث ينطبق قانون الدولة التي يهمها النظام العام و تسير الأمور كما لو لم يوجد تنازع بين القوانين و أن العبرة بقانون واحد فقط هو القانون الذي يوجد به النظام العام .
بالنسبة لطبيعة النظام العام فانه يطرح تساؤلات وهي ? هل هو تطبيق لمبدأ أصلي ؟ أم هل هو مجرد استثناء ؟ إن الرد عن هذا السؤال له أهميته من ناحية تحديد نطاق النظام العام و تفسيره, فالقول بأنه استثناء فيترتب عليه نتيجة أخرى هي تفسير النظام العام تفسيرا ضيقا و عدم التوسع في نطاقه و مدى آثاره .
لقد اختلف الكتاب في ذلك اختلافا بينا فيرى البعض أن مسائل النظام العام هي تطبيق لقاعدة عامة من قواعد القانون الدولي لها اختصاصها الطبيعي و ليست واردة على سبيل الاستثناء و حجتهم في ذلك أن قوانين النظام العام تقوم على أساس السيادة الإقليمية و إقليمية بعض القوانين هي قاعدة كقاعدة شخصية القوانين و كلاهما مستمد من احترام سيادة الدول


منقول