حين كتب الأستاذ محمود أبو السعود كتابه حول معالم الاقتصاد الإسلامي، لم يستوعب الكثير إمكانية ترجمة تعاليم الإسلام إلى نظم تحكم الحياة الاقتصادية والتجارية، حتى أبرز د. محمد عبد الله العربي الفكرة في تصور عملي من خلال كتابه: "المعاملات المصرفية المعاصرة والنظرية الإسلامية" (1966) وعزز ذلك د. عيسى عبده في كتابه: "بنوك بلا فوائد"، وانطلقت المسيرة في شبه القارة الهندية بكتابات متميزة؛ كإسهامات نجاة الله صديقي منذ 1958، وغيره من الاقتصاديين المسلمين، وعلماء الشريعة الإسلامية، ورجال الأعمال الرواد، أمثال الأمير محمد الفيصل والشيخ صالح الكامل اللذين سددا المسيرة وقوا عودها؛ حتى وصل اليوم عدد المؤسسات المالية الإسلامية على امتداد العالم إلى170 مصرفًا ومؤسسة في غضون 25 سنة فقط، وتبلغ الاستثمارات التي تديرها إلى أكثر من 150 مليار دولار، وصارت المصارف الإسلامية واقعًا جديدًا، يحظى بالقبول العالمي، وتتسابق المؤسسات المصرفية الأجنبية للأخذ بالتجربة، واحتفت بالتجربة مراكز البحوث بالجامعات الغربية، وعكفت مؤسسات التمويل الدولية على دراسة النموذج الإسلامي.
وتمثل اليوم كلٌّ من إيران والسودان أكثر الدول الإسلامية التي تطبق النظام المصرفي الإسلامي، وتمنع التعامل الربوى في جميع مصارفها، بينما تتجه باكستان إلى تطبيق قانون إسلامي يمنع الفوائد الربوية في جميع المؤسسات المالية والمصرفية العاملة في البلاد بحلول يوليو القادم، أما دول أخرى مثل ماليزيا والسعودية والبحرين والإمارات ومصر والكويت؛ فإنها تسمح بوجود النظامين المصرفيين، جنبًا إلى جنب، الإسلامي والربوي، دون أن تلزم قانونًا بإجراء المعاملات المالية على أساس تحكمه الشريعة الإسلامية.
تطورات عالمية
يمكن أن نرصد جملة من التطورات بالغة الأهمية بالنسبة للصناعة المصرفية الإسلامية على النحو التالي:
(1) تنتظم العديد من المؤسسات المالية الإسلامية في عملية إعادة هيكلة واندماج لمواجهة تحديات العولمة في شكل مؤسسات كبيرة وفعالة تمثلت في:
• عملية اندماج بين مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين والشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي، وكلاهما يتبع دار المال الإسلامي، المملوكة لرجل الأعمال السعودي الأمير محمد الفيصل، وكونت المؤسستان مصرف البحرين الشامل.
• تأسيس شركة البركة القابضة التابعة لمجموعة دلة البركة التي تتعامل بالنظام الإسلامي برأسمال مدفوع قدره 560 مليون دولار، وستقوم الشركة الجديدة بإدارة حوالي 25 مصرفًا تابعًا لمجموعة البركة.
• زيادة رأسمال بنك دبي الإسلامي أول المصارف الإسلامية لأكثر من 270 مليون دولار، بعد أن تعرض لهزة مالية عنيفة في أواخر التسعينيات بسبب مشكلة مخالفات مالية، الأمر الذي دفع السلطات النقدية في الإمارات لإعادة ترتيب أوضاع المصرف الإدارية والقانونية، وإعادة رسملة المصرف.
• مصرف أبوظبي الإسلامي، أحدث المؤسسات المصرية الإسلامية تأسيسًا، وصل رأسماله إلى مليار درهم إماراتي، ومزود بإدارة متمرسة، لديها كفاءة في استقطاب الودائع وتطوير المنتجات المالية.
(2) اتجاه معظم المصارف الإسلامية إلى تأسيس المحافظ الاستثمارية المحلية وصناديق الاستثمار في الأسهم العالمية، الأمر الذي أدى إلى توظيف السيولة الكبيرة لدى هذه المصارف، وتوسع قاعدة السوق، وازدياد الخدمات المالية والاستثمارية.
استطاع مصرف أبوظبي الإسلامي أن يطرح لأول مرة في منطقة الخليج صندوقًا إسلاميًّا؛ لتوزيع الأصول والمسمى صندوق "هلال". ودخلت كثير من المصارف الإسلامية الأخرى هذا المجال، وبرزت شركات الوساطة المالية التي تتيح فرصة التعرف على الأسهم والأوراق المالية التي يتم التعامل فيها وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.
وتعد شركة "إسلام آي كيو" أول مؤسسة إسلامية في مجال الإدارة المالية، ولديها موقع على شبكة الإنترنت؛ لتقديم خدمات التمويل والاستثمارات، والتي من بينها شراء وبيع الأوراق المالية الإسلامية بالأسواق الأمريكية؛ حيث تتيح الشركة تصفح أسهم أكثر من 6 آلاف شركة مدرجة بالأسواق الأمريكية، وتحديد ملاءمتها للاستثمار الإسلامي من الناحية الشرعية، وتمكين العملاء من إجراء المعاملات التي يرغبونها على ضوء أحكام الشريعة الإسلامية، ولا يسمح بالمتاجرة في السندات، والصكوك الربوية، وعمليات البيع على المكشوف، والفوائد على الفواتير، وحسابات الهامش لمخالفتها أحكام الشريعة الإسلامية.
(3) اتجاه العديد من المصارف التقليدية إلى التحول إلى مصارف إسلامية؛ حيث بدأ مصرف الجزيرة السعودي إجراءات التحول إلى مصرف إسلامي، بعد نجاح عملياته الاستثمارية الإسلامية، وتلبيةً لرغبة عملائه في إتمام المعاملات بما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية، وحديثًا أعلن بنك الشارقة الوطني رغبته الأكيدة في التحول إلى مصرف إسلامي.
(4) تزايد الاهتمام العلمي بالتجربة وتطويرها؛ فكثرت الدراسات والأبحاث العلمية، واضطلعت المجامع الفقهية، خاصة مجمع الفقه الإسلامي في جدة، الذي قام بدور بارز في هذا المجال. وما زالت الندوة الفقهية الاقتصادية السنوية التي تنظمها مجموعة البركة – منذ أكثر من عشر سنوات – تشكل منتديًا يجمع بين العلماء المختصين في مجال الاستثمارات والمصارف الإسلامية بصدد مداولات وإصدار رأي فقهي جماعي حول القضايا المالية المعاصرة.
هذا بالإضافة إلى المنتديات والمؤتمرات التي يرعاها البنك الإسلامي للتنمية بجدة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، واتحاد المصارف الإسلامية، والبنوك المركزية في كلٍّ من السودان وباكستان والبحرين وماليزيا، وبعض المعاهد المتخصصة في بريطانيا والبحرين وباكستان. ومن ناحية أخرى تطور اهتمام الجامعات الإسلامية إلى درجة منح الشهادات الجامعية في هذا المجال، وتعتبر جامعة أم درمان الإسلامية رائدة في مجال المصارف والاقتصاد الإسلامي؛ حيث تمنح درجات علمية، وتنظم دورات في مجالات الصيرفة والمالية الإسلامية، وتُعد أول مؤسسة جامعية في العالم تنشئ قسمًا للاقتصاد الإسلامي منذ 1968، ولكلية التجارة بجامعة الأزهر دور رائد في هذا المجال؛ ففي رحابها أقيم مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، وتبع ذلك وجود تخصصات الاقتصاد الإسلامي في الجامعة الإسلامية العالمية في باكستان وبعض الجامعات السعودية، خاصة جامعة الملك عبد العزيز التي أسس فيها مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، وكذلك الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.
(5) تطور أداء هيئات الرقابة الشرعية؛ فعلى صعيد الدول نجد أن السودان حقق تقدمًا في هذا الصدد، بعد أسلمة النظام المصرفي بالكامل، وتكوين هيئة عليا للرقابة الشرعية بالبنك المركزي السوداني (بنك السودان)، وصدور العديد من التشريعات والقوانين التي تنظم أعمال المصارف في ضوء تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. أيضًا هناك ماليزيا وباكستان؛ حيث تضطلعان بدور بارز في هذا الصدد؛ فالأولى كونت وحدة للرقابة الشرعية تابعة للبنك المركزي، إضافة إلى المبادرة لإصدار منتجات مصرفية إسلامية بالتعاون مع عدد من الدول الإسلامية على المستوى العالمي، والمساهمة في ترتيبات السوق المالية الإسلامية وصكوك السندات الإسلامية، أما باكستان؛ فالبنك المركزي يواصل مشروع الأسلمة الذي انطلق منذ أيام الجنرال الراحل "ضياء الحق"، وتمت عدة اجتهادات نظرية وتطبيقات عملية ضمن مشروع أسلمة الاقتصاد.
(6) هناك مصارف عالمية عريقة تقدم خدمات مصرفية إسلامية، مثل: مجموعة "هونغ كونغ شنغهاي" المصرفية (إتش. إس. بي. سي) و"شيس مانهاتن سيتي بنك"، وكذلك مصارف إقليمية ومحلية مرموقة، مثل: البنك الأهلي التجاري السعودي، والبنك السعودي الهولندي، و"ميي بنك" الماليزي - أبرز المؤسسات المالية التقليدية التي ارتادت مجال الصيرفة الإسلامية - وهناك مصارف تقليدية تستعد للتحول، مثال ذلك: بنك الجزيرة السعودي، وبنك الشارقة الوطني بالإمارات.
(7) أعلنت الحكومة الباكستانية مؤخرًا عن قرار يقضي بتعميم التحول الكامل نحو النظام المصرفي الإسلامي، وإلزام جميع مؤسسات التمويل المحلية والشركات المالية بالامتناع عن المعاملات الربوية، وحددت المحكمة الدستورية العليا في باكستان مهلة أربعة أشهر لترتب ولتكيف جميع المصارف والمؤسسات المالية أوضاعها للتعامل بالصيغ الإسلامية؛ حيث يبدأ تطبيق القرار ابتداء من أول يوليو القادم (2001) كحد أدنى.
(8) تعتزم السلطات النقدية في البحرين - بالتعاون مع بنك التنمية الإسلامي ومصرف البحرين الإسلامي - إطلاق أعمال وكالة التقييم الائتماني الإسلامي الدولية، التي يُسند إليها إجراءات التصنيف والتقييم الفني على ضوء معايير خاصة لأعمال المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، وسيكون لها دور في إضفاء المزيد من الشفافية والثقة على المؤسسات الإسلامية. هذا إلى جانب منظمة المراجعة والمحاسبة الإسلامية للمصارف الإسلامية التي تقوم بإجراء عمليات الرقابة على المصارف الإسلامية؛ وفقًا لمعايير وضوابط شرعية ومحاسبية متفق عليها، وقد أنجزت المنظمة هي الأخرى تشريعاتها والمعايير الدولية الإسلامية الخاصة بأنشطتها.
(9) تمكن البنك المركزي السوداني في عام 2000 من إصدار شهادات مشاركة البنك المركزي "شمم" وشهادات المشاركة الحكومية "شهامة" كأدوات مالية إسلامية، تمكن البنك المركزي من السيطرة على السيولة وإدارتها؛ لتحقيق السياسة النقدية المستهدفة في البلاد، وتقوم فكرة الإصدار على المبدأ الإسلامي الغنم والغرم، بدلًا من الفوائد الربوية.
فنجد أن شهادة مشاركة البنك المركزي تهتم بإدارة السيولة داخل الجهاز المصرفي، ويتم بيع الشهادات عندما يرغب بنك السودان في تخفيض السيولة، ويتم شراؤها عندما يراد زيادة السيولة. وحصيلة البيع لا يستغلها بنك السودان، ولكنها تسحب من النظام، ويتم تجميدها.
وتتحقق أرباح حاملي شهادات مشاركة البنك المركزي "شمم" فقط عند بيعها، أي أن هذه الأرباح ذات طبيعة رأسمالية Capital Gains وليست أرباحًا نقدية Dividends تدفع بنهاية السنة المالية. والتداول في شهادات شمم بيعًا وشراءً، يتم عن طريق العطاءات، غير أن لحامل شهادات "شمم" أن يبيعها خارج المزاد لبنك السودان أو لغيره لحاجته للسيولة.
أما حصيلة بيع شهادات مشاركة الحكومة "شهامة" والتي تُعنى بإدارة السيولة على مستوى الاقتصاد الكلي؛ فيعاد تدويرها وضخها في الاقتصاد القومي، بواسطة وزارة المالية، عندما تقوم بالإنفاق على مشاريع جديدة، أو لمشروعات قائمة.
تحديات أساسية
هناك جملة من التحديات تواجه المصارف الإسلامية، يمكن تلخيصها في الآتي:
1. التكَيُّف مع البيئة الخارجية التي تتجه نحو العولمة: لا بد أن تنهض المصارف الإسلامية بعبء التمهيد التدريجي للتكيف مع اتجاه عولمة الاقتصاد، وأن تتعاون فيما بينها لتفادي الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية، وأعتقد أن نجاح عمليات الاندماج وإطلاق السوق المالية الإسلامية الدولية، وتطبيق معايير الرقابة والمحاسبة الإسلامية سيساهم بفعالية في التكييف السليم دون خسائر.
2. المنافسة الكبيرة من المصارف التقليدية: ويتطلب دفع هذا التحدي أن تعمل المصارف الإسلامية على تحسين مستوى إدارتها وعملياتها الفنية؛ فلا تكتفي بأن تكون مجرد أوعية لتلقي الأموال، بل أدوات لاستثمارها، الأمر الذي يستدعي أن تعمل المصارف الإسلامية من جهة أخرى على إنتاج منتجات جديدة تكافئ منتجات المصارف التقليدية وتتفوق عليها، وبالتالي تعظيم مهارتها في الهندسة المالية الإسلامية.
القدرة على تحمل المخاطر من خلال الكفاءة المالية والجدارة الائتمانية لقاعدة عملائه: ولمواجهة التحدي الماثل في هذا المجال يتعين على المصارف الإسلامية أن تستخدم أفضل الوسائل لإدارة المخاطر والائتمان وتقلبات الأسعار في الأسواق، وهناك من يري ضرورة قيام وكالة إسلامية عالمية متخصصة في تقييم المخاطر وإدارتها فيما بين المصارف الإسلامية.