لقد كان نابليون أول من حاول الكيد للشريعة الإسلامية في العصر الحديث، فبعد احتلاله لمصر سنة 1798 حاول أن يستبدل أحكام الشريعة بالقانون الوضعي، فأنشأ محكمة سميت بمحكمة القضايا، وهي هيئة تتكون من أثني عشرة تاجرا، نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من عباد الصليب، وأسندت رياستها إلى قاض قبطي، وجعل من اختصاصها النظر في المسائل التجارية ومسائل المواريث. وتشكلت هذه المحاكم في كل من الإسكندرية ورشيد ودمياط . ,أنشأ " منوا " خليفة نابليون في مصر لكل طائفة من الطوائف غير الإسلامية من الأقباط والروم واليهود وغيرهم محاكم خاصة، ويتولى رئيس كل طائفة المحكمة الخاصة بطائفته، وكان ذلك بهدف تقليص دور المحاكم الشرعية. غير أن هذه المحاكم جميعها تلاشت بخروج الفرنسيين، وعادت المحاكم الشرعية إلى سابق عهده
وفي عهد محمد على تقلص القضاء الشرعي، إذ أنشأ ما يسمي بالمجالس القضائية المحلية بجانب المحاكم الشرعية، وقد أخذت هذه المجالس كثيرا من اختصاصات المحاكم الشرعية، ومن هذه المجالس: مجلس أقلام الدعاوى وكان مختصا بنظر الدعاوى المدنية التي لا تجاوز قيمتها ألف وخمسمائة قرشا، ومجلس دعاوى البلد في المدن الصغيرة، ويختص بالنظر في الحقوق المدنية التي لا تتجاوز قيمتها خمسمائة قرشا . ثم ثبتت وترسمت هذه المحاكم في عهد سعيد باشا، وصارت تحكم وفقا لما يظهر لها دون الارتباط بأي قانون أو عرف، حتى صار الناس يطلقون عليها محاكم القانون الهمايوني.
وتشعب القضاء في مصر نتيجة المعاهدات التي أبرمتها حكومة الباب العالي في الأستانة وتساهل الحكومة المصرية، فكان القناصل يحكمون بين رعاياهم والحائزين للحماية من غيرهم، ومع مرور الزمن اصبح هذا السلوك قانونا بموجب اللائحة السعيدية المعروفة بسم لائحة البوليس السعيدية الصادرة في 15 أغسطس 1857. وتصور هذه اللائحة حالة التردي التي وصلت إليها الدولة، إذ خرج من يدها حتى أمر تطبيق شرعها على من يقيم على أرضها، فتلك اللائحة نصت على أن الأجانب يحاكمون أمام القناصل التابعين لهم .
وفي سنة 1863 تولى الحكم إسماعيل باشا، ووجد أن النظام القضائي الذي يخضع له الأجانب في حالة فوضى، وأراد أن يصلح الأمر بإعادة المحاكم الشرعية، ولكن نوبار باشا وزير الخارجية ( الأرمني الأصل ) رأى أن سبيل الإصلاح هو إنشاء المحاكم المختلطة، وفي سنة 1867 رفع تقريرا إلى الخديوي إسماعيل يعرض فيه إصلاح الوضع القائم بإنشاء محاكم مصرية مختلطة مؤلفة من قضاة أوروبيين ومصريين تمتد ولايتها لجميع المسائل المدنية والتجارية والجنائية مع الاحتفاظ بالمسائل المتعلقة بالعقارات للمحاكم الشرعية، وأوصى بإصدار قوانين تقوم المحاكم الجديدة بتطبيقها .
ووافقت الدول أصحاب الامتيازات على الفكرة بعد مفاوضات دامت سنتين قضاها نوبار باشا في الترحال بين عواصم أوروبا، وشكلت لجنة من ممثلي تلك الدول وعقدت اجتماعاتها في مصر أثناء الاحتفال بافتتاح قناة السويس، وانتهت بالموافقة على تأسيس المحاكم المختلطة سنة 1870. واشترطت لذلك أن تسن قوانين تطبق أمام هذه المحاكم على أن تؤخذ من القوانين الفرنسية، وأن يكون القضاة خليط من المصريين والفرنسيين والألمان والإنجليز. وكان ذلك إيذانا ببداية وضع القوانين الوضعية .
وفي خطوة أولى نحو الغاية المرسومة – وهي إقصاء الشريعة وإحلال القوانين الوضعية بدلا عنها –تم تكليف محام فرنسي يدعى "مونوري" بوضع القوانين التي ستطبق أمام القضاء المصري، وقام هذا المحامي بما تعجز أن تقوم به عشرات اللجان، فوضع التقنين المدني، وتقنين التجارة البرية، وتقنين التجارة البحرية، وتقنين المرافعات، وتقنين تحقيق الجنايات، وقد قام بنقلها عن القوانين الفرنسية نقلا مشوها في أغلب الحالات، وصدرت هذه التقنينات سنة 1875 واستمر العمل بها حتى سنة 1949. وتمكن نوبار باشا بعد جهد من إبعاد الدولة عن مصادر تشريعها الإسلامي .وصارت المحاكم المختلطة تخضع للقوانين الغربية. فمادا عن المحاكم المصرية ؟
تغيير القوانين الشرعية المطبقة في المحاكم المصرية:
لم تسلم القوانين الشرعية المطبقة أمام المحاكم المصرية من التعديل، ففي أواخر سنة 1880 تألفت لجنة لوضع لائحة المحاكم النظامية، وفي 17 نوفمبر 1881 وضعت لائحة لترتيب تلك المحاكم، وقام أعضاء اللجنة بوضع تقنينات لها، ثم شبت الثورة العرابية فتوقف ذلك العمل الذي كان يهدف إلى إقصاء الشريعة، وتدخل الإنجليز للقضاء على الثورة، وأعادت الحكومة النظر في لائحة 1881، وأصدرتها معدلة في يونيو 1883، ثم صدر بعدها مباشرة التقنين المدني في 28 أكتوبر 1883، وصدرت بعده بفترة وجيزة التقنينات الخمسة في 13 نوفمبر 1883، وقد صدرت جميعها باللغة الفرنسية ثم ترجمت إلى العربية .
افتتح الخديوي توفيق المحاكم الجديدة رسميا في 31 ديسمبر1883، وعقدت المحاكم أولى جلساتها في 1 يناير 1884، واقتصر اختصاصها الإقليمي في أول الأمر على الوجه البحري ثم امتد سنة 1889 إلى عموم الإقليم، وبذلك أقصيت الشريعة ولم يبقى من اختصاص المحاكم الشرعية سوى الأحوال الشخصية.
وفي سنة 1923 قامت محاولة خطيرة بمناسبة وضع الدستور المصري الأول أطلق عليها مدنية القوانين، وطالب أصحابها بتوحيد التشريع والقضاء وجعلهما مدنيين في الأحوال الشخصية كما هو في المعاملات المدنية .
وفي سنة 1949 ألغيت المحاكم المختلطة، ووضع معالي الوزير عبد الرزاق السنهوري باشا بمعاونة بعض أساطين القانون الفرنسي قانونا مدنيا للمحاكم الأهلية، قيل أنه استمد من أكثر من عشرين مدونة قانونية، ودخل في النفاذ اعتبارا من 15 اكتوبر1949 .
[وفي سنة 1952 الغي الوقف الأهلي، وتبعه إلغاء المحاكم الشرعية والملية جميعا سنة 1955، و ألغيت كافة القوانين المتعلقة بترتيبها واختصاصاتها اعتبارا من ا يناير 1956، وألحقت دعاوى الأحوال الشخصية والوقف بولاية القضاء العادي .
تلك مراحل إقصاء الشريعة وحلول القوانين الوضعية محلها، ولكن ذلك لم يتم بالسهولة التي عرضت بها، إنما كان وراء ذلك جهود مضنية ومحاولات مستميتة من الغرب، وتدبير محكم.
للأمانة العلمية