قد شهدت سيادة الدولة العثمانية محاولة تشريعية عرفت بسم قانون نامة، وكان ذلك حوالي سنة 1455م، وكان هذا التشريع يتضمن تنظيما كاملا للإدارة، وأحكاما متعلقة بالعقوبات، وهذا القانون رغم استعارته لبعض القواعد من الشريعة الإسلامية إلا أنه يبتعد عنها من الناحية الواقعية، واستحدث قانونا جنائيا كاملا، واستبدل بالحدود غرامات مالية، ففي السرقة لا يقام الحد إلا إذا كان الخيل محلا للجريمة، والعقوبة قد تكون بقطع اليد أو بتغريم السارق بغرامة باهضة، أما الزنا فعقوبته بعد ثبوته الغرامة التي تختلف باختلاف ما إذا كان الزاني متزوجا أم أعزبا، أما السكر فعقوبته التعزير، ويكون عادة بالضرب بالعصا والغرامة .
ويعزى هذا القانون إلى السلطان العثماني محمد الفاتح، غير أن هذا القول لا يتفق مع ما قاله المنصفون ومن ذلك ما ذكره الدكتور سالم الرشيدي في كتابه محمد الفاتح من أنه اطلع على كتاب الأستاذ على همت بركي الأفسكي الرئيس السابق لمحكمة النقض في تركيا الذي وضعه بمناسبة مرور خمسمائة عام على فتح القسطنطينية بعنوان الحياة العدلية في عهد السلطان محمد الفاتح، وقد اثبت الكاتب بأدلة قطعية عدم صحة نسبة هذا القانون لمحمد الفاتح وأنه مدسوس عليه . ويقول الرشيدي: إن القوانين التي تنسب إلى حكام الدولة العثمانية ليست من هذه القوانين المناقضة لشرع الله، بل هي أشبه ما تكون بالقوانين الإدارية في زماننا، فقد كانت تبين هيئة الحكومة وأعمدتها الأربعة وهم الوزراء وقضاة العسكر والدفتر دار، ومدى سلطة كل منهم واختصاصه وكيفية اجتماع الديوان، والشارات التي يحملها الوزراء والنظام الداخلي للجيش وفرقه، والقصر السلطاني والاحتفالات والأعياد ونظام إدارة المقاطعات.
ولقد تتابعت بعد ذلك الحركة التشريعية في تركيا فصدر قانون جنائي سنة 1851 وتم تعديله سنة 1858، وقد أخذ التعديل بالكامل من القانون الفرنسي، ثم أدخلت عليه تعديلات كثيرة كان أهمها تعديل 1911 وهو مأخوذ من القانون الإيطالي . وشملت الحركة التشريعية التركية المجالات الآتية: القانون التجاري سنة 1850 نقلا عن القانون الفرنسي الصادر سنة 1807، قانون الأراضي الأميرية سنة 1858، قانون أصول المحاكمات التجارية سنة 1864، قانون التجارة البحرية سنة 1861، قانون المحاكمات الحقوقية سنة 1880، قانون الإجراءات العام 1880
وكان انسلاخ الدولة عن الشريعة الإسلامية واضحا في كثير من القوانين، فالأحكام الجنائية تختلف عن تلك المعروفة في الفقه الإسلامي، بل إن بعض المحرمات صارت مقننة، ومن ذلك أجازت المادة 112 من قانون المحاكمات الحقوقية اقتضاء الفوائد القانونية ( الربا المحرم شرعا )، وأجاز نظام المرابحة الصادر عام 1887 الفوائد الرضائية في المعاملات العادية، وفي عام 1876 صدر القانون المدني المعروف باسم مجلة الأحكام العدلية، وقد أخذت نصوصها من أحكام الفقه الحنفي، وكانت القوانين الأخرى مناقضة لها في كثير من أحكامها .
وبالطبع كان للحركة التشريعية أثرها على جميع الدول العربية والإسلامية باعتبار أن تركيا كانت تمثل مركز الخلافة وتسيطر على أغلب الأقطار الإسلامية، ولذلك لا غرابة أن نجد أن الدول الأخرى قد حدت حذوها وتأثرت بما حل بها.وسنحاول في إطلالة سريعة أن نعرض تاريخ القوانين الوضعية المعاصرة لمصر، باعتباره تاريخا لأغلب التشريعات العربية المعاصرة.